توقيت القاهرة المحلي 13:53:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مئة عام من الخيبة: الأنظمة العسكرية تغتال العروبة بالطائفية!

  مصر اليوم -

مئة عام من الخيبة الأنظمة العسكرية تغتال العروبة بالطائفية

طلال سلمان

قبل مئة عام تقريباً، ومع تهاوي السلطنة العثمانية في غمار الحرب العالمية الأولى، وتقدم الاحتلال الغربي ممثلاً ببريطانيا وفرنسا في المشرق العربي، وجدت فكرة «العروبة» المناخ المؤاتي لكي تتبلور سياسياً فتتحول تدريجياً إلى عقيدة جامعة لأشتات العرب، الذين كانوا يتوزعون على «ولايات» تباع بالمزاد العلني لمن يدفع أكثر من الباشوات، الذين يرضى عنهم السلطان أو الباب العالي.
كان الغرب الذي اخترق دوائر الحكم في السلطنة قد تدخل أكثر من مرة، باسم الدين أحياناً، وباسم الأقليات غالباً، لانتزاع الامتيازات وحق القرار في أكثر من «ولاية»، أو لإعادة النظر في تقسيم الولايات بما يناسب مشاريعه المستقبلية. ولعل «متصرفية جبل لبنان» هي النموذج الأوضح لمثل هذا التدخل: فقد أفاد الغرب من فتنة مدبرة في الجبل بين المسيحيين والدروز، لكي يفرض على السلطان إقامة «متصرفية جبل لبنان» بذريعة حماية المسيحيين فيه، بشرط أن يكون «المتصرف» مسيحياً من رعايا السلطان. لذا، توالى على رأس المتصرفية ثمانية متصرفين كانوا بأكثريتهم الساحقة من الأرمن. كان ذلك امتيازاً لجبل لبنان وبمبررات طائفية. أما بقية أنحاء لبنان (الجنوب والشرق والشمال والعاصمة الحالية بيروت) فقد ظلت في الولايات التابعة للسلطان، ريثما يتم اقتسام المشرق العربي بين بريطانيا وفرنسا مع نهاية الحرب.
ولعل هذا التقسيم الذي تم برعاية الغرب قد سرّع في بلورة فكرة العروبة كإطار جامع لشعوب المشرق خاصة، لا سيما ان الدعاة الأوائل كانوا بأكثريتهم من بين المسيحيين الذين حظوا بفرص تعلّم حديث نتيجة البعثات التعليمية الفرنسية والبريطانية والإيطالية ومن ثم الأميركية، التي كان بعضها قد باشر إنشاء المدارس بدءاً من القرن السادس عشر، مع الأخذ بالاعتبار أن الرهبانيات قد حظيت بفرصة أن تتولى تعليم الناشئة في وقت مبكر. ولعل هذا بين أسباب أخرى ما جعل طلائع القائلين بالعروبة التي سرعان ما أخذت تتبلور عبر إطار «قومي» من المسيحيين عموماً. ولعل النموذج الغربي للقومية هو الذي ساد في «بلاد الشام».
نتيجة للاضطهاد العثماني وتخوف الفرنسيين من التبلور السياسي للأفكار القومية، بما يزعج مخططهم للهيمنة تحت عنوان «حماية المسيحيين» في المشرق، هاجر عدد من كبار المفكرين والدعاة في اتجاه القاهرة، حيث «احتضن» البريطانيون «الدعوة» الجديدة بأمل استخدامها ضد العثمانيين في كل مكان.
هكذا شهدت القاهرة إطلاق صحف ومجلات عربية عدة، بينها «المقتطف» و «الأهرام» و «دار الهلال» إضافة إلى بعض المجلات العلمية، فضلاً عن تعزيز دور النشر الذي زاد اهتماماً بإعادة تقديم جوانب من التراث الفكري والثقافي العربي، الذي سيبلغ أوجه مع بدايات القرن العشرين على أيدي مجاميع من أوائل المثقفين الذين تابعوا دراساتهم العليا في فرنسا، وعادوا منها ليضيفوا إلى جهد رواد التنوير الأوائل البحوث الفكرية حول الهوية الوطنية، وإعادة اكتشاف ما يجمع الشعوب العربية في التراث كما في التطلع إلى مستقبل الحرية والاستقلال والطموح إلى الوحدة.
في وقت مبكر، برز تياران متكاملان فكرياً متناقضان سياسياً: الدعوة إلى إسلام صحيح، أو بالأحرى إعادة الاعتبار إلى «دولة الإسلام»، في المقابل اعتبار العروبة إطاراً فكرياً سياسياً جامعاً للعرب بأكثريتهم من المسلمين والأقليات الدينية التي لا ينتقص اختلافها في الدين من «قوميتها»، بل إن إسهامها الفكري في بلورة «العروبة» كإطار سياسي جامع للأمة، بمختلف أقطارها وبمعزل عن الانتماء الديني لمجاميعها، شكل عنصراً حاسماً في صياغة «العروبة» التي ستغدو حركة بل حركات سياسية متعددة تحت عنوان جامع «القومية العربية».
هذا في التاريخ، أما في واقع الحال، فإن التجارب الفاشلة في معظمها لتجسيد القومية أو العروبة في نظام سياسي، قد أصابت فكرة العروبة في مقتل، وسهُل على خصومها الهجوم عليها بالشعار الديني، أو بالمشاريع الكيانية التي تتذرع بحقوق الأقليات الدينية أو المذهبية أو العرقية في أن تكون لها كيانات سياسية خاصة، ولو تحت الحماية الغربية (الأميركية بالمطلق).
ومع تهالك نظام حزب «البعث» في العراق، عبر مغامرات صدام حسين العسكرية في الخارج (الحرب الطويلة لسبع سنوات ضد إيران وثورتها التي أسقطت أعدى أعداء العرب، الشاه ـ وبعدها غزو الكويت) كان طبيعياً أن يسقط أمام الاحتلال العسكري الأميركي، المعزز بقوات عربية ـ حتى تخفف عنه تهمة «الاستعمار» مجدداً.
انكشف خراب العراق كدولة وتبدت وحدة شعبه مضروبة بالطائفية والعنصرية (سنة وشيعة، عربا وكردا وأقليات أخرى).. وكان بديهياً مع سقوط ما يجمع أن يتخذ الصراع على السلطة منحىً مذهبياً مدمراً. فانبرى الشيعة يحاولون تعويض ظلمهم الطويل واستبعادهم عن مركز القرار بالهيمنة على الحكم في ظل الاحتلال الأميركي. لكن تجربتهم كانت رديئة بكل المعاني، سياسياً واجتماعياً، فحركت عوامل الفتنة، ثم فتحت الباب للتدخل الأجنبي، أميركياً وإيرانياً، على مصراعيه. ومع افتقاد المرجعية السياسية العربية المؤهلة والقادرة، ساد مناخ الفتنة، لا سيما أن الحكم الفئوي غرق في الفساد حتى أذنيه.
وكان بديهياً أن يتمدد مناخ الفتنة إلى سوريا حيث انكشف النظام عبر مواجهة معارضيه الذين وجدوا مَن يسلّحهم ويرعاهم تحت لافتة إعادة الحقوق للأكثرية السنية بعدما احتكر العلويون السلطة لخمسة عقود تقريباً. وكانت تركيا أردوغان السباقة في الانتقال من موقع الصديق الحميم لبشار الأسد إلى العدو القومي والطائفي والسياسي. ثم انضم إليها بعض أقطار الخليج، وقفزت قطر، فجأة، إلى موقع قيادة الهجوم. هكذا نشأ حلف تركي ـ خليجي يقاتل «الحكم المتعسف»، الذي تحول إلى «حكم طائفي يضطهد السنة».
في مثل هذه الأجواء المذهبية، كان طبيعياً أن تتعاظم قوة التنظيمات الأصولية الآتية من الجاهلية حاملة راية إسلامية مع السكاكين. وصار التنافس بين تنظيمين متحدّرين من «القاعدة» أولهما «جبهة النصرة» وثانيهما وهو الأقوى إمكانات والحديدي تنظيماً هو «الدولة الإسلامية في العراق والشام».
ولقد سمحت حالة التفكك التي يعيشها العراق، بانقساماته المذهبية والعرقية، بأن تخترق طوابير «داعش» أرضه بلا قتال، وأن «تأخذ» الموصل بكل سلاح الجيش الذي كان فيها ومعه حوالي خمسمئة مليون دولار كانت في خزينة المحافظة، وأن تتقدم في اتجاه بغداد مجتاحة المدن والبلدات كما السكين في الزبدة، قبل أن تنتبه بغداد أو تنبّه، فيجبر رئيس الحكومة نوري المالكي على الاستقالة. ويأتي بديله من تنظيم «الدعوة» ذاته، وعبر «تفاهم» إيراني ـ أميركي مكرر، لتبدأ محاولة صد هذا الزحف الداعشي الذي تعاظمت قواته العسكرية وإمكاناته المادية، خصوصاً وقد جند الشبيبة، بل الأطفال أبناء العاشرة، لنشر راية الإسلام بين المسلمين!
كذلك فإن تمدد الحرب في سوريا وعليها قد أنهك الجيش، فاستطاعت جحافل «داعش» أن تحتل الرقة بداية، ثم تتمدد منها في اتجاه الحسكة ودير الزور. ومع اشتداد المقاومة في العراق، اندفع «داعش» عبر بادية الشام ليحتلّ تدمر، بقلعتها وآثارها التاريخية العريقة التي تشهد لملكتها زنوبيا. وهكذا صارت لـ «داعش» السيطرة على نصف مساحة سوريا، وهي بغالبيتها صحراء، في حين تصادم مع «جبهة النصرة» في الشمال، عند الحدود مع تركيا. وكان على «السلطان» أردوغان الخارج من الانتخابات بهزيمة سياسية ضيّعت عليه بعض أحلام السلطنة، أن يتدخل حتى لا تكون الحرب بين «داعش» و «النصرة»، فيفيد منها نظام بشار الأسد.
بالمقابل وفي الطرف البعيد للوطن العربي، اليمن، اكتشفت السعودية ومعها دول «مجلس التعاون الخليجي»، أن جماعة سياسية (حزب «أنصار الله») تشكل خطراً عليها، لا سيما بعد اتهامها بالتحالف مع إيران ومع الرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح، فشنت الحرب على اليمن شمالاً وجنوباً. وهي لا تزال مستمرة في انتظار الوصول إلى صيغة سياسية تطمئن مملكة الذهب إلى أن جارها اليمن غارق في الخراب، ولن تقوم له قائمة خلال قرن، وإن كان هذا لا يطمئنها كفاية بعد كل ما أصاب اليمنيين في أرواحهم وعمرانهم من خسائر فادحة «تؤبد» استقرارهم في فقر مدقع لن يؤثر في عصيانهم.

هل هذه نهاية العروبة؟
هل أمكن لمجموعة من الأنظمة المطعون في قدرتها على استقطاب مجاميع شعبها وتوحيدها حول أهدافها المشروعة في دولة عادلة لكل أبنائها، أن تدمر الفكرة الجامعة التي جسدت، لفترة، آمال العرب في التحرر والوحدة والسيادة على بلدانهم والتقدم بها نحو الانتماء إلى العصر؟
أم أن الفكرة أقوى وأبقى، خصوصاً أن الدعوات البديلة تأخذ إلى الجحيم، ولن يجد أي شعب عربي بديلاً من هويته ومن نضاله لإعادة بناء دولته بعد تحريرها من كل هذه المجموعة المتكاملة من الأعداء: الخارج الأميركي، وضمنه إسرائيل، والطائفية والمذهبية والشبق إلى السلطة ولو على حساب وحدة الأرض والشعب؟
بعد قرن أو يزيد، ها هم عرب المشرق، على الأقل، يعودون إلى نقطة الصفر.
الرحمة للشهداء.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

GMT 05:50 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

هل لديك الشجاعة؟!

GMT 05:48 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

الأدوات السياسية

GMT 05:46 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

كيف نتصدى لإيران في الخليج؟

GMT 05:31 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

"الممر"

GMT 05:28 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

عيون وآذان (إسرائيل تتآمر على ما بقي من فلسطين)

GMT 02:12 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

«صاحبة الجلالة» ليست دائماً بريئة!

GMT 02:05 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أرجيلة «حزب الله» وجمر إيران!

GMT 01:46 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

شرعية الإنجاز

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مئة عام من الخيبة الأنظمة العسكرية تغتال العروبة بالطائفية مئة عام من الخيبة الأنظمة العسكرية تغتال العروبة بالطائفية



يتميَّز بطبقة شفّافة مُطرّزة وحواف مخملية

كورتني كوكس تُهدي فُستانًا ارتدته قبل 20 عامًا لابنتها كوكو

نيويورك ـ مادلين سعاده

GMT 03:24 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

"دولتشي آند غابانا" تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019
  مصر اليوم - دولتشي آند غابانا تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019

GMT 06:16 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة
  مصر اليوم - أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة

GMT 09:04 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية
  مصر اليوم - ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية

GMT 12:48 2019 الخميس ,10 كانون الثاني / يناير

تعرف على تاريخ مصر القديمة في مجال الأزياء والموضة

GMT 03:59 2018 الأحد ,28 كانون الثاني / يناير

تفاصيل جديدة في حادث الاعتداء على هشام جنينه

GMT 10:53 2018 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

العلماء يحذرون عشاق "شاي الأكياس" من المخاطر الصحية

GMT 15:26 2018 الجمعة ,12 كانون الثاني / يناير

ميلان يضع خُطة لإعادة تأهيل أندريا كونتي

GMT 09:19 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

وصول جثمان إبراهيم نافع إلى مطار القاهرة من الإمارات

GMT 08:13 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

التغذية غير الصحية كلمة السر في الشعور بالخمول

GMT 09:09 2017 الخميس ,28 كانون الأول / ديسمبر

طارق السيد ينصح مجلس إدارة الزمالك بالابتعاد عن الكرة

GMT 00:47 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

أمن الإسماعيلية يرحب باستضافة المصري في الكونفدرالية

GMT 18:22 2017 السبت ,09 كانون الأول / ديسمبر

القدر أنقذ ميسي من اللعب في الدرجة الثانية

GMT 09:28 2016 الخميس ,18 شباط / فبراير

عرض فيلم "نساء صغيرات" في الإسكندرية
 
Egypt-Sports

All rights reserved 2025 Arabs Today Ltd.

All rights reserved 2025 Arabs Today Ltd.

egyptsports egyptsports egyptsports egyptsports
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon