بقلم - طلال سلمان
لا يتعب أهل النظام العربى من التفوق على أنفسهم، مكرا ودهاء، كرا وفرا، مخاصمات بلا أسباب واضحة، ومصالحات من فوق أسباب القطيعة.. وهكذا يدوخ الرعايا وهم يحاولون حل الغاز التوتر المفاجئ بين «حليفين»، والهبوط بمظلة المصالحة بين دولتين متخاصمتين، من دون تبيان الأسباب فى الحالتين.
على سبيل المثال، لا الحصر: تلاقت الدول العربية فى القمة الاقتصادية الاجتماعية فى بيروت، قبل أسبوعين، وظل مقعد سوريا، «المطرودة» من الجامعة العربية فارغا.
ثم، بعد أيام، توالت الأخبار عن إعادة دولة الإمارات فتح سفارتها فى دمشق، مستبقة بذلك قرار سلطنة عُمان فتح سفارتها، من دون سابق إنذار، فى حين قرر الأردن فتح معبر «نصيب» الذى كانت تقفله القوات الأمريكية المرابطة هناك بذريعة مقاتلة «القاعدة» ومشتقاتها.
بالمقابل، أعلنت الإدارة الأمريكية، ومن دون سابق إنذار، أنها ستسحب قواتها المعدودة التى نشرتها قبل فترة فى منطقة دير الزور، شرقى سوريا.. لكن ناطقا عسكريا أمريكيا عاد فأكد أن القرار قد فُهم خطأ، وأن الرئيس الأمريكى ترامب طلب تجميد تنفيذ القرار، ريثما يتم التنسيق مع تركيا.
بالمقابل أكد ناطق عسكرى أمريكى أن القوات الأمريكية التى لا تزال تتواجد فى شمال العراق وشرقه، مرشحة لأن تبقى فى المدى المنظور وقد يُزاد عديديها.
كما أن ناطقا آخر باسم البنتاغون أكد أن القوات الأمريكية المكلفة بمهام محددة فى اليمن ستتابع تنفيذ مهماتها، بغض النظر عن طبيعة التوافق الحالى والسعى لإبرامه بين اطراف الصراع هناك.
بالمقابل فإن الرئيس الأمريكى ترامب لا يكف عن ابتزاز السعودية بمسئوليتها عن جريمة اغتيال الكاتب الصحفى جمال خاشقجى فى القنصلية السعودية فى إسطنبول وتقطيعه جثته وإخفائها.
أما تركيا أردوغان فهى تمارس الابتزاز مرتين: مع السعودية، عبر اتهامها مباشرة، بتنفيذ عملية قتل الخاشقجى وتقطيع جثته وإخفاء كل الوقائع المتصلة بالجريمة، ثم بترحيل المنفذين من إسطنبول إلى الرياض، و«محاكمتهم » صُوَرِيا فيها، والزعم أن الأحكام ستنفذ بإعدام بعضهم وسجن الآخرين، من دون أى دليل حسى على صدق هذه الرواية.
أما الابتزاز الثانى فموجه إلى السعودية والولايات المتحدة معا، إذ إن أنقرة هنا تلعب دور «الشاهد الملك»، بقدر ما هى الدولة التى خرقت سيادتها واستخدم بعض أرضها لتنفيذ جريمة شنيعة وإخفاء الضحية بعد تقطيعها.. وساقطة هنا ذريعة الحصانة الدبلوماسية لمبنى القنصلية، لأن الجريمة تبقى جريمة، كائنا من كان القاتل.
***
لم يأت أى رئيس أو ملك أو أمير عربى للمشاركة فى القمة الاقتصادية ــ الاجتماعية فى بيروت.. (إلا أمير قطر الذى وصل مع افتتاح القمة وغادر مباشرة، بعد ما ألقى قنبلة صوتية بإعلانه تقديم خمسمائة مليون دولار كوديعة فى المصرف المركزى فى بيروت).
ولأننا عشية القمة العربية العادية (الرقم 30) بعد أسابيع قليلة، والتى، يفترض أن تُعقد فى تونس، فإن طوفانا من الأسئلة حول هذه القمة، ومن يحضرها، وأية قرارات سوف تتخذها، سواء ما يتصل «بالقضية المركزية» فلسطين، (كما كانت تسمى سابقا)، أو بالعلاقات العربية ــ العربية ومعظمها غير سليم وغير سوى.
يفترض أن يرفع الحظر عن مشاركة سوريا فى القمة..
ولكن سوريا العائدة إلى الجامعة العربية وإلى القمة لديها حسابات معتمدة مع عدد من الدول التى سعت إلى «طردها» من الجامعة، وحاربتها بالسلاح والمال والميليشيات فقاتلت جيشها وقتلت آلافا مؤلفة من شعبها، تارة بالشعار الإسلامى، وطورا بشعار الديمقراطية، تارة من بوابة تركيا، وطورا من بوابة طهران، وأحيانا عبر الحدود من لبنان، ودائما بالغارات الإسرائيلية على مدنها وجبهة الجولان والقواعد الجوية.
كذلك فإن للعراق حسابات معقدة مع بعض الدول العربية التى قدمت تسهيلات استثنائية، فى فترة سابقة، لحكومة المالكى، ثم خلال الفوضى المفتوحة، مما أفقد الخزينة العراقية مبالغ طائلة جراء النهب المنظم، وعمليات التهريب الخطيرة، ولا بد من تسديد هذه الحسابات أو التعهد بوقف مثل هذه العمليات.. هذا إذا ما تعذر إعادة الأموال المنهوبة.
***
على أن الملفت أن «مينى قمة» قد انعقدت فجأة فى عمان، وشاركت فيها ست دول عربية، دون أن تتضح الأهداف التى استدعت انعقادها والقرارات التى اتخذت فيها.. وهل ستشكل هذه الدول «محورا » فى القمة، ومع من وضد من؟!.
ثم، وهذا هو السؤال الأخطر: أين فلسطين من هذه القمة، سواء التى تم عقدها، أم التى ستستضيفها تونس؟
فى الفترة بين قمتين، كل قمتين عربيتين، تجرى مياه كثيرة فى نهر القضية الفلسطينية، فتعدل فى المواقع والمواقف، وتنتهى – فى الغالب الأعم – بإضعاف الموقف العربى، والتمكين للنهج الاستيطانى الإسرائيلى الذى يكاد يبتلع معظم ما كان مقررا أن يكون من نصيب السلطة التى لا سلطة فعلية لها على أى شبر من فلسطين.
ومع أن الحياة السياسية فى الكيان الصهيونى تشهد سلسلة من الأزمات والتصدع فى التحالفات السياسية الداخلية، إلا أن المسئولين العرب فى شغل شاغل عنها، وجل جهودهم تنصب على «تهدئة» الفلسطينيين.
يشار فى هذا المجال إلى الجهد الخاص الذى تبذله القاهرة، حاليا، مع منظمات «حماس» و«الجهاد الإسلامى» فى غزة.. خصوصا وأن تظاهرات يوم الجمعة من كل أسبوع التى تخرج لمواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلى باتت تشكل صفحة جديدة فى تاريخ الكفاح من أجل التحرر، ولقد برز الحجر وكأنه سلاح مقدس لهؤلاء المجاهدين الذين لا يتعبون من مواجهة عدوهم المتفوق عليهم بالسلاح، والذى يتعامل مع الفتية والنساء بوحشية غير مسبوقة.
فهل تنجح القاهرة، أخيرا، فى إعادة وصل ما انقطع بين سلطة عباس والفصائل المستبعدة أو التى أبعدت نفسها عن السلطة التى لا سلطة لها؟
من الطبيعى، والحالة هذه، أن يظهر «الأيتام» من أبناء الشهداء، وأن يحاولوا تنظيم أنفسهم، والسعى لمقاضاة الكيان الصهيونى بجرائم اغتيال آبائهم وفرض اليتم عليهم وتركهم بلا من يعيلهم.
ومن أسف، فإن العواصم العربية، وفيها القيادات السياسية والعسكرية والأمنية، لديها اهتمامات أخرى غير أوضاع الفلسطينيين، سواء فى مناطق السلطة التى لا سلطة لها، أو فى قطاع غزة.
.. والأمر متروك: «للديمقراطية الإسرائيلية» المشغولة الآن بالصراع حول رئاسة الحكومة بعد ما تزايد أعداد المعارضين لبنيامين نتنياهو، وبروز أكثر من كتلة تعمل لعقد تحالفات تُنهى العهد الطويل لرئيس الحكومة الإسرائيلية.
والعرب فى شغل يأخذهم بعيدا عن فلسطين.. فلكل نظام عربى همومه الثقيلة التى تشغله عن «القضية المركزية».
وغير واضح، حتى الساعة، الهدف من المجهود التى تبذله القيادة المصرية مع قيادتى «حماس» و«الجهاد الاسلامى»، وإن كان المأمول أن تحاول القاهرة حصر الخلافات بين «السلطة» والتنظيمين المعارضين فى غزة.. وتقديم ما يمكن من مساعدات لأهل القطاع المحاصر منذ سنوات طويلة.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع