معتز بالله عبد الفتاح
مات الدكتور أحمد زويل، غادر السوق، جاء فى الأثر: الدنيا سوق قام ثم انفض ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر.
مات إنسان مصرى محب لوطنه، وعالِم متميز محب لعلمه، وإنسان خلوق يستوعب ما فى الآخرين من عيوب، مات مخلفاً وراءه الكثير من الخير الذى يقال عنه، وهو ما أعادنى لمعضلة الموت التى لى معها قصة، فقد توفّى أبى وأنا صغير، ولا أتذكر أننى بكيت آنذاك، فقد تقبلت وفاته بصدر رحب للغاية، وكان بكاء أمى وأخى وأختى يبعث فى نفسى الكثير من الاستغراب، لقد عشنا جميعاً فصولاً مؤلمة لرجل ينهش المرض الخبيث فى جسده، يعانى ونعانى معه، وها هو ارتاح!
لم أستسلم للحزن، وكان علىَّ أن أقنع نفسى بأن ما حدث من مرض ثم وفاة خير، ليس فقط بمنطق ألبير كامو «أنك إن أصابك الموت هذا الصيف، فلن يزورك الصيف المقبل»، وإنما بأنه خير له عوائد كثيرة، فاخترعت قصة كحيلة من حيل المغلوب على أمره لمواجهة الواقع المؤلم، وكبرت القصة معى حتى صدقتها، وأصبحت أكررها على نفسى من آن لآخر.
إنها ببساطة قصة التحرر، تحرر الروح من الجسد، الروح تريد أن تنطلق إلى آفاق أرحب وأوسع بعد أن تتخلص من الجسد وما يمثله من محدودية وشهوانية.
وكى تتحرر، فالروح تستعين بخالقها كى يدمر هذا الجسد المسجونة فيه.
ويستجيب الخالق سبحانه فى توقيت يراه هو كى تتحرر الروح بعد أن يكون الجسد قد أدى دوره فى التدافع على الأرض.
ولمحدودية أفقنا نعتقد أن هذا التحرر مصيبة، وهو وصف استخدمه القرآن الكريم كإقرار لمشاعر البشر التلقائية «مصيبة الموت».
ولكن أعتقد أن هذا المعنى الدنيوى للموت كمصيبة، هو جزء من خوف الإنسان مما يجهل، قطعاً لا يتذكر أى منا مشاعره قبل أن يولد أو بعد الولادة مباشرة، لكننا نخرج عادة من أرحام أمهاتنا فى حالة بكاء، لأن السكون والدعة والهدوء والسكينة التى كنا نعيش فيها انتهت وسيحل محلها المجهول، ثم يتحول المجهول إلى معلوم ملىء بالكَبَد (لقد خلقنا الإنسان فى كَبَد) والضعف (وخُلق الإنسان ضعيفاً).
ولكننا ننسى أن الموت هو البداية الحقيقية للحياة الحقيقية، حياة بلا جسد تتقلب عليه أحوال البشر من صحة ومرض، قوة وضعف، استقامة وعوج، خير وشر.
سألتنى ابنتى عن عمرى حين مات والدى فقلت لها 13 سنة، وقد كان ذلك عمرها آنذاك، فبكت وبكى ابنى (الذى هو أصغر منها)، فقال لى وكأنه يستعطفنى: «اوعدنى أن تعيش أطول فترة ممكنة»، فوعدته حتى يتوقف عن البكاء، ولكننى بدأت أعلمه خيرية الموت كنوع من «تحرر» الروح من الجسد، ولكنه لم يقتنع، على الأقل مؤقتاً.
اللهم ارحمنا، فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فأنت علينا قادر، والطف بنا يا مولانا فى ما جرت به المقادير،.
قال تعالى: «قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» صدق الله العظيم.