ما الهيئة التي ستكون عليها قائمة المشكلات التي تحتاج إلى علاج فوري في العراق اليوم؟
أياً كانت نظرتك إلى الأمر، لا بد أن تتصدر القائمة عملية تحرير الموصل، وتطهيرها من تنظيم داعش، الذي ينظر إليه كثيرون بوصفه عدواً للإنسانية. ربما تليها على القائمة مسألة تشكيل حكومة وطنية جديدة تتخطى الحواجز الطائفية، وتحمل للعراقيين الأمل في المستقبل. قد تتضمن القائمة الحاجة إلى منع تحول الفساد إلى أسلوب حياة، بل التعامل معه بوصفه بلاءً أصاب قطاعات محددة بالحكومة. ولا يقل عن كل ذلك في الأهمية التوصل إلى توافق وطني لتحرير البلاد تدريجياً من قبضة التدخل الأجنبي العدواني.
على هذه الخلفية، يعد القرار، الذي اتخذته القيادة الكردية في إقليم كردستان، الذي يتمتع بالحكم الذاتي، بإجراء «استفتاء على الاستقلال» في 25 سبتمبر (أيلول) في غير موضعه. ربما يتساءل المرء عن المشكلة العاجلة التي يمكن لهذه الخطوة أن تستهدفها، ناهيك عن أن تحلها؟ ألا يقدم الاستفتاء المقترح حلاً لمشكلة غير موجودة، بل ألا يمثل خدعة تؤدي إلى ظهور مشكلة جديدة؟
على مدى مائة عام على الأقل ظلت فكرة إقامة دولة مستقلة تداعب مخيلة النخبة الكردية، ليس فقط في العراق، بل في تركيا، وسوريا، وإيران أيضاً، حيث يوجد في تلك البلدان عدد كبير من الأكراد.
لدى الأكراد الحق في تقرير مصيرهم مثل أي مجموعة أخرى من البشر، لكن لا يمكن تجاهل مسألة التوقيت، أو ترتيب الأولويات إن شئت القول. كانت فكرة ترتيب الأولويات عنصراً مهماً في تفكير بعض أبرز الشخصيات القيادية الكردية.
بالنسبة إلى قاضي محمد، الذي أنشأ جمهورية مهاباد، التي لم تستمر طويلاً، في كردستان إيران عام 1946، كانت الأولويات مرتبة على النحو التالي:
الحكم الذاتي لأكراد إيران في إطار الدولة الإيرانية.
استخدام اللغة الكردية في التعليم والإدارة.
انتخاب مجلس إقليمي للإشراف على شؤون الدولة والشؤون الاجتماعية.
كان للملا الراحل مصطفى البارزاني، الذي يعد أهم قيادي سياسي كردي خلال المائة عام الماضية، ترتيب أولويات خاص به. لقد ركّز كما يتضح من محادثات في سبعينات القرن الماضي، حين كان يناضل ضد قمع البعثيين، على مبادئ ثلاثة هي: العدالة، والحرية، والاستقلال. كانت الأولوية لتحقيق العدالة لأكراد العراق، الذين لم يكونوا مشاركين في الحكومة، وليس لهم نصيب في ثروات العراق رغم أنهم يمثلون 20 في المائة من تعداد السكان. كان أمل الملا هو تحقيق العدالة، ثم الحرية لكل العراقيين مما يمهد الطريق لاستقلال الأكراد.
حاولت الحملة الدعائية لصدام حسين تصوير البارزاني بوصفه انفصالياً مدعوماً من أعداء العراق في الخارج، ومن بينهم إيران. مع ذلك ترتيب الأولويات الذي كان يعتقد البارزاني في صحته أقنع جماعات المعارضة العراقية الأخرى بأن القائد الكردي كان ملتزماً حقاً بتحقيق العدالة، والحرية لجميع العراقيين، سواء كانوا عرباً أم أكراداً، قبل طرح مسألة الاستقلال في سياق نظام سياسي يقوم على مبدأ سيادة القانون.
كانت سياسة البارزاني مصدر إلهام لبعض القادة الأكراد الآخرين من بينهم عبد الرحمن قاسملو، الذي أحيا الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني بعد عقود من الموت، وحوله إلى طرف فاعل رئيسي في المشهد السياسي بعد الثورة، وإن دام ذلك لفترة قصيرة. وقد أوضح قاسملو، الذي تم اغتياله في فيينا على أيدي عملاء لإيران، في الكثير من المحادثات أن «الديمقراطية لإيران» هي الهدف الأول على قائمة الأهداف الخاصة به. ويأتي على القائمة بعد ذلك «الحكم الذاتي لإقليم كردستان»، ولأن قاسملو كان ديمقراطياً اجتماعياً كان نظام الحكم الذي يشير إليه هو النظام «التقدمي».
لم يقع قاضي محمد، والبارزاني، وقامسلو في فخ الشعبوية لأنهم كانوا نتاجاً حقيقياً أصيلا للثقافة الكردية التي ترتبط فيها الشجاعة بالصبر والتأني كتوأم ملتصق. لقد نأوا بأنفسهم عن الشعارات الرخيصة، التي أصبحت رائجة بين بعض القادة الأكراد الآخرين، الذين حولوا الاستقلال من مبدأ ذي قيمة كبيرة إلى حيلة حزبية هدفها السلطة.
على الجانب الآخر، حتى عبد الله أوجلان، مؤسس حزب العمال الكردستاني، كان له نسخة لقائمة أولويات خاصة به تقدمت فيها الإطاحة بـ«الدولة الرأسمالية التركية» على استقلال الأكراد. التمتع بحق تقرير المصير يختلف عن إتباع استراتيجية انفصالية.
لا يوجد مثال واحد أدى فيه الانفصال إلى استقلال أي جماعة عراقية. هناك تجارب عدة في هذا السياق في أجزاء عدة من أفريقيا، وبخاصة في كاتانغا، وكيفو، وبيافرا، إضافة إلى إعلان الاستقلال من طرف واحد من جانب قادة الأقلية البيضاء في روديسيا، لكن الفشل كان مصيرها كلها. وأسفرت تجارب مماثلة في مناطق أخرى مثل جنوب السودان عن حروب امتدت لعقود تمخضت عنها في النهاية دولة فاشلة غارقة في الدماء.
الانفصال دائماً أمر صعب ومؤلم، حتى إذا كان طلاقاً بين الأزواج، ناهيك عن انفصال على مستوى الدول. لهذا السبب يجب أن يتم التعامل مع هذا الأمر بحرص قدر الإمكان في جو من الهدوء تشيع فيه روح الود والتسامح.
لدينا نموذجان حدث فيهما انفصال على مستوى الدولة بطريقة ودية نسبياً. النموذج الأول كان انقسام تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين، هما جمهورية التشيك، وسلوفاكيا؛ فقد تم ذلك دون عنف؛ لأنه كان طبقاً لترتيب الأولويات الذي تصوره الملا مصطفى الذي تأتي فيه العدالة أولاً، ثم الحرية، وفي النهاية الاستقلال. النموذج الثاني هو جمهورية تيمور الشرقية، التي حصلت على الاستقلال بعد معاناتها من عملية إبادة حين حررت إندونيسيا، التي ضمتها إليها، نفسها من نظام سوهارتو الاستبدادي. لقد سبقت حرية إندونيسيا استقلال تيمور الشرقية.
الاستقلال مسألة في غاية الأهمية إلى درجة يصعب معها اتخاذ قرار بشأنها من خلال استفتاء بنعم أو لا. يواجه من يحشدون لحسم الاستفتاء بنعم تساؤلات بشأن نسبة مشاركة الناخبين، والنسبة التصويت لكل من الخيارين. إذا تم حسم الاستفتاء بنعم بنسبة 99.99 في المائة، كما هو الحال في دول العالم الثالث، لن يأخذ الكثيرون النتيجة على محمل الجد. إذا تم حسم الاستفتاء بنعم على الطريقة الأوروبية، أي 51 في المائة مقابل 49 في المائة، ستكون حينها قد قسمت الشعب.
يتضمن استقلال إقليم كردستان الكثير من القضايا المعقدة؛ فعدد الأكراد في العراق خارج المنطقة، التي تتمتع بالحكم الذاتي، أكبر من عدد الأكراد داخل تلك المنطقة. ماذا سيكون وضعهم إذن؟ كيف سيتم تقسيم الديون والأصول الحكومية بين بغداد والدولة المفترضة في المناطق الكردية؟ ماذا سيكون موقف دول الجوار تجاه إقامة دولة مستقلة صغيرة حبيسة؟
ليس المقصود من هذا نشر الخوف، فقد تم اتخاذ القرار بالفعل، وإلغاؤه الآن سوف يضع القادة الأكراد في موقف محرج. مع ذلك لا يزال من الممكن التراجع على الأقل لنصف الطريق.
فلنتصور ما كان الملا مصطفى ليفعله في مثل هذا الموقف. أستطيع تصوره وابتسامة أبوية ترتسم على وجهه، بينما ينحت غليوناً من قطعة خشب، فقد كان فناناً ماهراً في الأعمال اليدوية، ويتأمل المسألة. أعتقد أنه كان ليهتم كثيراً بماهية السؤال الذي يتم الاستفتاء عليه. على سبيل المثال، قد يكون السؤال: هل تفوض الحكومة الذاتية لإجراء محادثات مع الحكومة العراقية بشأن الاستقلال؟
إذا كانت الإجابة بنعم، فسيصبح استقلال الأكراد مشروعاً لكل العراقيين قادراً على توحيد العراقيين حول بناء مستقبل جديد حتى كدولتين منفصلتين.
لكن أترى أني أحلم حلماً بعيد المنال؟
المصدر : صحيفة الشرق الأوسط