عمار علي حسن
(هذه قصة للأطفال كتبتها عام 2001 من وحى انتفاضة الأقصى، ونالت جائزة هزاع بن زايد الإماراتية لأدب الأطفال، لكنها لم تُنشر من قبل، وظلت حبيسة الأدراج ثلاثة عشر عاماً، وأجدها الآن مناسبة كى أهديها إلى أطفال فلسطين، الذين قتلتهم طائرة إسرائيلية بلا رحمة، وهم يلعبون على شاطئ غزة فى براءة، غير عابئين بحسابات قساة القلوب ومظلمى العقول من دهاقنة السياسة وتجار الدم)
***
وجاء الدور على زياد ليروى حكايته. تقدم هو الآخر إلى منتصف الصف، ونظر إلى التلاميذ الذين استعدوا للإصغاء وقال:
«كانت ليلة عصيبة. أنا وأمى وأبى كنا نتحلق حول طاولة الطعام فى مطبخ بيتنا، نتناول عشاءنا بعد يوم ملىء بالتعب. لم يكن لدينا من طعام سوى أرغفة جافة قليلة، وجبن وبضع حبات من الطماطم. فالحصار الذى ضربه جنود الاحتلال الإسرائيلى على مدينتنا، ووجودهم الكثيف فى الشوارع منعنا من التزوّد باحتياجاتنا من الطعام.
لم نكن قد أكلنا سوى لُقيمات قليلة حتى سمعنا صوت انفجار كاسح دوى فى آذاننا وشعرنا على الفور بزلزال رهيب يرج حوائط البيت رجاً، فراحت تترنح وسط الغبار الخانق. هممنا لنجرى أنا وأمى، لكن أبى صاح فينا:
- امكثوا تحت المنضدة حتى لا تصابوا بسوء.
ودفعنا أجسادنا تحت المنضدة ونحن نرى الحوائط تتكوم فوقنا بعد أن تقذفها دانات الدبابات الواقفة إلى جانب البيت، حتى أحاط بنا ظلام تام. حاول أبى أن يعتدل فى جلسته حتى يريح جسده المنهك، لكنه وجد أن رجله اليمنى قد انحشرت بين قطعتين كبيرتين من الخرسان المسلح. أما أمى فقد شعرت من شدة الخوف أنها تكاد تفقد جنينها، ابن الأشهر الثمانية، فراحت تصرخ:
- أنقذونا.. أنقذونا.
وأخذ أبى يهدئ من روعها قائلاً:
- لا تخافى شيئاً، سنخرج بإذن الله سالمين.
ومرت ساعات، لم نكف فيها عن الكلام، حتى نؤكد لأنفسنا أننا لا نزال أحياء.
وفجأة رأينا خيطاً رفيعاً من النور يتسرّب إلى البقعة الصغيرة التى تضمنا تحت الحوائط المنهارة. قلت متهللاً:
- انظر يا أبى، إنها شمس الصباح.
فرد قائلاً وهو يشير إلى النور:
- هذه الفتحة ستكون لنا مخرجاً بإذن الله.
ولأننى كنت الأقرب إليها، فطلب أبى منى أن أضع فمى على فوهة الفتحة وأنادى بأعلى صوتى على العابرين، لعل واحداً منهم يسمعنى ويأتى لينقذنا. ورحت أصرخ:
- أنقذونا.. أنقذونا. نحن هنا تحت الحوائط المنهارة.
لكن أحداً لم يسمع. ورأيت شيئاً يلمع فى النور فمددت يدى إليه، فوجدته سكين المطبخ. غمرتنى الفرحة، وقلت لأبى:
- وجدت السكين.
فسألنى بصوت مجهد:
- ماذا ستفعل به؟
فقلت له:
- سأحاول أن أوسع هذه الفتحة الضيقة حتى يمكننى الخروج منها.
فصمت أبى برهة، وقال:
- أخشى أن تنهار علينا الحوائط تماماً، أو يثير حفرك الأتربة فتخنقنا.
فقلت له:
- لا تخشَ يا أبى، سأكون حذراً.
ودفعت بالسكين إلى الفتحة الضيقة، وأخذت أحفر فى دأب شديد لساعات طويلة حتى وسعت الفتحة على قدر جسدى، وزحفت إلى أعلى بين قوالب الطوب الأحمر حتى أطلت رأسى على الخلاء. كانت الشمس توشك أن تغيب، وجنود الاحتلال قد رحلوا بعد أن دمروا بيوتاً عديدة، وتركوا وراءهم عشرات الشهداء. جريت أبحث عن أحد، لكن جيراننا كانوا قد رحلوا، أو دفنوا تحت أنقاض البيوت المتهدمة. لم أجد سوى الحاج خليل صاحب محل البقالة يجمع ما تبقى من بضائعه القليلة التى نهبها الجنود. قلت له وأنا ألهث:
- أمى وأبى محجوزان تحت ركام بيتنا الذى هدمته دبابات العدو.
وترك الحاج خليل ما بيده من بضائع، وراح يجرى معى حتى وصلنا إلى الفتحة الضيقة. كان الظلام قد حلّ تماماً فلم يرَ الحاج خليل شيئاً بداخلها، لكنه سمع صوت أبى ينساب من تحت الحوائط بآيات من القرآن الكريم. نظر إلىّ وقال:
- لا بد أن عمال البلدية قادمون ليبحثوا عن أحياء تحت الأنقاض.
فقلت له:
- لكننى لا أستطيع الانتظار حتى يأتوا.
وضع الرجل يده على كتفى ليهدئ من روعى، وقال:
- انتظر بجوار والديك، وأنا سأذهب لأستعجل عمال البلدية.
مكثت بجانب الفوهة التى يأتى منها صوت أبى العذب، وهو يقرأ آيات من كتاب الله لكى يطمئن قلبه. وكنت أنا أطمئنه هو وأمى بأنهما سيخرجان بعد قليل. ومرت الدقائق علىّ كأنها سنوات كاملة. وسمعت صوت هدير يأتى من بعيد، فنظرت فإذا بالجرافة قادمة، والحاج خليل يسبقها وهو يشير بيده ناحية منزلنا المتهدم.
وما إن وصلت الجرافة حتى راحت ترفع الأنقاض. وبعد أكثر من ساعة من الحفر خرجت أمى وأبى إلى الحياة». هز المعلم رأسه، وابتسم لزياد، وقال له:
- إنك ابن بار بوالديك.
وانطلق التلاميذ يصفقون له بشدة، وهو يبتسم ويحييهم، ثم قال وهو يسير باتجاه السبورة ليقف بجوار صديقه إياد:
- كلما تذكرت أن والدىّ كان من الممكن أن يموتا تحت الأنقاض أرتجف، وتملأنى كراهية لهؤلاء الذين يريدون قتلنا جميعاً.
(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى)
"الوطن"