عمار علي حسن
ما ينقصنا فى زمن الدم والهلاك وتوظيف الدين فى القتل والنهب باسم الجهاد فى سبيل الله هو الانحياز إلى «الجهاد الأكبر» حسب التعبير النبوى ذائع الصيت، حيث اعتنى الرسول، عليه الصلاة والسلام، بتعليم المؤمنين كيف يجاهدون النفس، التى هى أمّارة بالسوء، وملهمة بالفجور قبل التقوى، إلا من رحم ربى. ومقاومة النفس تعنى، كما يقول القشيرى فى رسالته الشهيرة: «فطمها عن المألوفات، وحملها على خلاف هواها فى عموم الأوقات»، وهى فى نظره «رأس العبادة»، وجوهر الإسلام وسره الأعظم، مستنداً إلى إجابة بعض الشيوخ الثقات عن معنى هذا الدين بقولهم: «ذبح النفس بسيوف المخالفة».
والنفس لها معنيان، كما يشرح أبوحامد الغزالى فى «إحياء علوم الدين»؛ الأول هو جامع قوة الغضب والشهوة فى الإنسان، والثانى هو ذات الإنسان، التى توصف بأوصاف مختلفة، بحسب اختلافها فى الأحوال. فإذا سكنت تحت الأمر وذايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سُميت «النفس المطمئنة». وإذا لم يتم سكونها وصارت مدافعة للشهوة ومعارضة لها سميت «النفس اللوامة». وإن تركت الاعتراض، وأذعنت وأطاعت لمقتضى الشهوات، ودواعى الشيطان سُميت «النفس الأمّارة بالسوء».
ويحفل التراث الصوفى بعبارات أثيرة حول مجاهدة النفس منها: «الراحة هى الخلاص من أمانى النفس»، و«سجنك نفسك فإذا خرجت منها وقعت فى الراحة الأبدية»، وما يقوله ابن عطاء الله السكندرى من أن: «النفس مجبولة على سوء الأدب، والعبد مأمور بملازمة الأدب، فالنفس تجرى بطبعها فى ميدان المخالفة، والعبد يردها بجهده عن سوء المطالبة، فمن أطلق عنانها فهو شريكها معها فى فسادها». ويزيد صوفى آخر هو الجنيد على ذلك بقوله: «النفس الأمّارة بالسوء هى الداعية إلى المهالك، المعينة للأعداء».
ويتوج الأمر بحديث شريف للرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «أخوف ما أخاف على أمتى: اتباع الهوى، وطول الأمل. فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فيُنسى الآخرة»، ومسك الختام آية كريمة يقول فيها رب العزة سبحانه وتعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى» (سورة النازعات/ الآية 40).
وتأديب النفس وضبطها يقوم على أربعة أعمدة هى التوبة والمراقبة والمحاسبة والمجاهدة. والتوبة تعنى التخلى عن سائر المعاصى والذنوب، والندم على كل ذنب سالف، والعزم على عدم العودة إليه مستقبلاً. وهى بذلك تخلق قوة الإرادة وشدة البأس والقدرة على مقاومة هوى النفس، الذى يُضعف ذات الإنسان بقطعه للصلة بينه وبين ربه، وإفساده للعلاقة مع الناس وتخريبها. والمراقبة تعنى أن يأخذ الإنسان نفسه بمراقبة الله تعالى، ويُلزمها إياها فى كل لحظة، وفى كل حركة وسكنة، حتى يتم لها اليقين بأن الله مطلع عليها، عالم بأسرارها، رقيب على أعمالها، قائم عليها، وعلى كل نفس بما كسبت، وبذلك تصبح مستغرقة بملاحظة جلال الله وكماله، شاعرة بالأنس فى ذكره، واجدة الراحة فى طاعته، راغبة فى جواره، مقبلة عليه، معرضة عمن سواه.
والمحاسبة هى إكبار للذات الإنسانية بإلزامها التقوى الدائمة التى إن قلّت زادت بعد الحساب، واللوم على التقصير، والعودة مرة أخرى لمصالحة النفس. أما المجاهدة فتعنى فى مقصدها وغاياتها الاعتدال، والقصد فى الغرائز، والسعى لخلق التوازن فى النفس البشرية.
(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى).