يحيي الفلسطينيون كل عام ذكرى النكبة (يوم 15 أيار/مايو)، التي مضى عليها 69 عاماً، في اعتقاد منهم بأن هذا الأمر يغذّي مشاعرهم، ويبقي على آمالهم، ويعزز وحدتهم وهويتهم كشعب.
في الحقيقة ثمة عنصران، أو حدثان سياسيان كبيران شكلا الأساس للهوية الوطنية المعاصرة للفلسطينيين، ولإدراكاتهم لأنفسهم كشعب، وتالياً لإدراكاتهم لمحيطهم العربي ولعلاقاتهم بالعالم وبالعكس. الحدث الأول، وهو يتمثّل في النكبة (عام 1948)، والذي نجم عنه تشريد معظم الفلسطينيين، الذين أضحوا لاجئين محرومين من الهوية والوطن والتطور المستقل، ويخضعون لأنظمة سياسية أو سلطوية مختلفة، وتالياً إقامة إسرائيل على حسابهم كشعب. أما الحدث الثاني فيتمثل بانطلاق الكفاح المسلح، وحركة التحرر الوطني الفلسطينية، في منتصف الستينات، إذ على هذا العمود، ومن ضمنه تأسيس منظمة التحرير ككيان سياسي معنوي لهم، استطاع الفلسطينيون التحدث كشعب، وتقديم أنفسهم للعالم بهذه الصفة.
بيد أن مشكلة الفلسطينيين الهوياتية ظلت تكمن في العديد من الجوانب، ومثلاً، فإن التأسيس الأول، المنبثق من حدث النكبة، لم يكن كافياً، لأنه كان تعريفاً بالسلب، وبدلالة تصوير الآخرين لهم، سواء كانت إسرائيل، أو الأنظمة العربية، أو الأمم المتحدة. والمعنى أنه لا يمكن لشعب العيش مع هكذا تعريف، أو تعزيز هويته به، لأنه تعريف ينطوي على الانكفاء أو الذوبان والتبدّد، وتالياً فقدان المعنى، سيما مع غياب الإقليم الموحد والمجتمع الواحد، ولأن الهويات ظاهرة تاريخية، تتطور وتتعزّز أو تذهب نحو الأفول والغياب أو التحول. هذا أولاً.
ثانياً، رغم أن التعريف الثاني، المنبثق من إطلاق الكفاح المسلح وتأسيس منظمة التحرير، جاء بالإيجاب، كونه بمثابة رد فعل على الحدث الأول، وكونه أكد حضور الفلسطينيين كشعب ومنعهم من الغياب، وبالأحرى التغييب، أو من الإزاحة من المكان والزمان/الرواية التاريخية، إلا أن هذا الحدث ظل قاصراً إذ لم يستطع الفلسطينيون لأسباب ذاتية وموضوعية البناء عليه، أو تجسيده في معطيات جغرافية وديموغرافية وسياسية، وهو ما حصل، أو ما نشهد عليه هذه الأيام، مع أفول حركة التحرر الوطني الفلسطينية، وانتهاء ظاهرة الكفاح المسلح.
ثالثاً، في المقارنة بين الحدثين المذكورين كان الحدث الأول (أي النكبة) هو الأكثر والأرسخ تأثيراً، إذ نجم عنه اقتلاع معظم الفلسطينيين من أرضهم، واخضاعهم لسلطات وأنظمة مختلفة ومتباينة، حدّت من قدرتهم على التعبير عن ذاتهم كشعب، فيما الحدث الثاني لم يستطع تغيير هذا الواقع، رغم أنه استطاع في فترة من الفترات التعويض عن ذلك بوجود المنظمة.
رابعاً، ما ينبغي أن ندركه أن إقامة كيان السلطة الفلسطينية، بموجب اتفاق أوسلو (عام 1993)، مع استمرار الحدث الأول (النكبة)، وانحسار تأثيرات الحدث الثاني (الكفاح المسلح)، سيما مع تغييب منظمة التحرير، وضعنا أمام حدث مؤسّس ثالث، لا يمكن التقليل من تأثيره، وبخاصة أنه استمر، منذ 24 عاماً، أي أكثر من الحدث الثاني، الذي استمر أقل من عقدين (1965-1982)، علماً أن هذا الحدث (إقامة كيان السلطة) لم يلغِ، بل ثبت الحدث الأول، الذي مضت عليه قرابة سبعة عقود، وألغى الحدث الثاني.
الفكرة هنا أنه لا ينبغي النظر باستخفاف إلى الآثار الكبيرة المترتبة على حدث إقامة كيان فلسطيني، في الضفة والقطاع، أي في الأراضي الفلسطينية المحتلة (عام 1967)، فهو أقل من دولة وأكثر من حكم ذاتي، على الهوية الوطنية للفلسطينيين، وعلى إدراكات الفلسطينيين لذاتهم كشعب، خصوصاً أن ذلك الحدث أدى إلى تحويل الحركة الوطنية الفلسطينية إلى مجرد سلطة تحت سلطة الاحتلال، أي قبل إنجاز هدف إنهاء الاحتلال، وأنه لم يلغ، أو لم يستطع تجاوز، تداعيات الحدث الأول (النكبة).
لدى أي زائر إلى فلسطين، وهو ما حصل معي في زيارتي الأولى، وتعرفي إلى مجتمعات الفلسطينيين، لاحظت أنني إزاء تجمعات مختلفة في أولوياتها وحاجاتها ومطالبها، وفي نمط حياتها السياسية، وانتظامها في إطار قوانين مختلفة. هذا يشمل الفلسطينيين في دولة إسرائيل، أو فلسطينيي 1948، الذين تتعامل معهم إسرائيل ليس باعتبارهم عرباً أو فلسطينيين وإنما وفق هوياتهم الدينية الطائفية، أو الإثنية، كعرب ودروز وبدو وشركس. كما يشمل ذلك فلسطينيي 1967 في الضفة، والفلسطينيين في القدس، وفلسطينيي قطاع غزة، أي أن لدينا في فلسطين التاريخية أربعة تجمعات متباينة أو متمايزة للفلسطينيين. وإذا كان التجمع الأول، أي فلسطينيي 48، ميّزته الحركة الوطنية الفلسطينية، بإخراجها إياه من معادلاتها، ومن منظوماتها السياسية، منذ قيامها في منتصف الستينات، فإن التمايز بين التجمعات الثلاثة الأخرى، نشأ بنتيجة إقامة السلطة، وفق اتفاق أوسلو، قبل ربع قرن، لا سيما مع الانقسام الفلسطيني على السياسة والسلطة بين «فتح» و «حماس»، وانقسام كيان السلطة بين الضفة وغزة.
طبعاً لا يقتصر هذا الأمر على التجمعات الفلسطينية الأربعة في فلسطين التاريخية، التي ذكرت، إذ نجم عن إقامة كيان السلطة أيضاً تصدّع ادراكات الفلسطينيين، بين الداخل والخارج، إذ بات ثمة فلسطينيون خارج المعنى والمبنى الكياني الفلسطيني القائم، واختزلت فلسطين بجغرافية الضفة وغزة، والفلسطينيون بالمواطنين في هاتين المنطقتين.
فوق ذلك فمن المعلوم أن مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين في الخارج متباينة في أوضاعها وأولوياتها، إذ إن الفلسطينيين في الأردن يتمتّعون بالجنسية أو بـ «المواطنة»، وباتوا مثلهم مثل فلسطينيي 48، بمعنى ما، خارج المعادلات والمنظومات السياسية الفلسطينية (منذ 1970)، في حين دخلت مجتمعات الفلسطينيين اللاجئين في سورية ولبنان والعراق في طور التآكل، بحكم تدهور الأوضاع في المشرق العربي.
هكذا أصبحنا إزاء سرديات وأولويات فلسطينية متعددة، أو طبقات سردية أخرى، فوق السردية الأساسية المتعلقة بالنكبة، والتي أضحت عرضة للتآكل مع ولادة أجيال جديدة من الفلسطينيين لا يعرف أباؤهم، وربما أجدادهم أيضاً فلسطين، ولا يحملون شيئاً من ذاكرتها، سوى ما نقل إليهم من أهاليهم، أو ما قرأوا عنها في الكتب، مع ما يعنيه ذلك من فقدان الصلة الروحية بالبلد، التي تتغذى من الذاكرة، ومن الرموز، والعيش المشترك (راجع مقالتي: «الفلسطينيون أمام خطر خسارة الهوية»، «الحياة»، 25/4).
ما أريد قوله هو أن الحركة الوطنية الفلسطينية سهت، أو بالأصح لم تدرك، أهمية تغذية الذاكرة الفلسطينية، وتعزيز الصلة الروحية للفلسطينيين بالبلاد، وأهمية الحفاظ على السردية الفلسطينية الأساسية، وضمن ذلك عدم الارتكان لها لوحدها، لأنها تأسست على السلب، أولاً، ولأنها عرضة للتآكل، ثانياً، ولأنه تنشأ سرديات جديدة مختلفة مع أجيال جديدة ثالثاً.
لا يستنتج من ذلك أن السردية المتأسسة على النكبة انتهت، أو نسيت، فهي ستبقى ولكنها لن تنجح إذا اعتُمدت وحدها كأساس للتعبير عن هوية الشعب الفلسطيني، وعن صلته الروحية بالبلد، وعن تطلعه للبقاء شعباً أيضاً.
أعني من كل ما تقدم أن الفلسطينيين في حاجة إلى رؤية سياسية جديدة توحدهم، وتجيب عن الأسئلة المعقدة التي اختبروها في تجربتهم داخل البلد، وفي مناطق اللجوء، عن ذاتهم كشعب وعن وطنهم ومستقبلهم المتخيلين، وأن الحركة الوطنية الفلسطينية معنية بصوغ هكذا رؤية، كما هي معنية بصوغ الأطر المناسبة التي يمكن أن تكون بمثابة الوطن المعنوي الجامع، والتي يمكن أن تعوض عن غياب الوطن المتعين في إقليم وفي دولة، وهو ما حاولته سابقاً منظمة التحرير التي أحيلت إلى التقاعد على ما يبدو.
الفكرة أن تحرير فلسطين، أو انهاء دولة إسرائيل، كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية وأيديولوجية/دينية، بات أمراً متعذّراً لعقود، سيما بحكم ترهل أوضاع الفلسطينيين، وضمور حركتهم الوطنية، وغياب المعطيات العربية والدولية المناسبة، بخاصة مع الانهيار الدولتي والمجتمعي في بلدان المشرق العربي.
وعليه، ففي ظروف صعبة ومعقدة من هذا النوع، الأجدى للفلسطينيين التركيز على إعادة صوغ رؤاهم السياسية وأحوالهم الذاتية وعلاقاتهم البينية وكياناتهم الجمعية، كي يبقوا شعباً، بدل من الغرق في صراع تفاوضي عقيم، في ظروف عربية ودولية غير مواتية، أو الغرق في صراع على المكانة والسلطة على كيان فلسطيني هو أصلاً تحت سلطة الاحتلال، سيما أن هذا الكيان يتم بناؤه على أساس تصديع مفهوم الفلسطينيين كشعب.