توقيت القاهرة المحلي 13:53:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

زهـــرة

  مصر اليوم -

زهـــرة

حسن البطل

جَنين سقيط في قارورة على الرف. قبضتاه مضمومتان أبداً. ركبتاه زاويتان قائمتان أبداً.. وعيناه مطبقتان أبداً. مومياء لا تهترئ أبداً.

جَنين سقيط في حجم قبضتي غلام في العاشرة، وأصغر قليلاً من حجم قبضة اليد اليمنى لأبي الفلاح الخمسيني اللاجئ.

لوحة ايضاح، أو نحت حي/ ميت يسبح في فضاء من الماء (سأعرف لاحقاً أنه «فورمالين»). هذه عيادة الدكتور سعيد عودة. يأخذني أبي إليه. يضربني الدكتور إبرة في عضل عجيزتي اليمنى. وبعد يومين أو ثلاثة يضربني في عضل عجيزتي اليسرى. يوماً أعرج ساعات على قدمي، ويوماً آخر أعرج على قدمي الأخرى. ولد ضعيف البنية يحتاج حديداً سائلاً في لون ذلك الفورمالين في القارورة على الرف. خلاصة زيت كبد الحوت في مطعم الوكالة، وخلاصة الكبد في عجيزتي.  

د. سعيد، الستيني، أشيب الشارب، أشيب الشعر، وئيد الخطوة.. وعلى أرنبة أنفه نظارة الرجل العالم البيضاء (ستصبح موضة الشباب وأنا في عمر الخمسين). 
 
هل كان أبي يأخذني الى الدكتور سعيد لأنه لا يحب منافسه في القرية الدكتور صبحي طه، أو أنه يأخذني إليه ليلغطا وقتاً طويلاً عن الثورة السورية الكبرى، وعن نكبة فلسطين. أما الدكتور صبحي، الذي تفضله غالبية نساء القرية، لأنه شاب و»يحكّم بالبلاش» فهو في عمر أخي، الابن الكبير لأبي. والرجل الكبير لا يحكي ذكريات الحرب والثورة مع طبيب في عمر ابنه. 

مرة أخذتني أُمي الى صبحي هذا، فلم يكن على رف عيادته جنين سابح في الفورمالين، وليس في غرفة الانتظار سوى مجلات قديمة عن الحرب والسياسة. قلت لأمي: لن يضربني الإبرة غير الدكتور سعيد، حتى لو دفع أبي الفقير ليرتين للكشف الطبي كل شهر، ورُبع ليرة أجرة إبرة خلاصة الكبد التي تستقر في ربلتي عجيزتي على التوالي: اليمنى واليسرى.  

كان الدكتور سعيد عربياً من ايران ويحكي لأبي عن ريح حملته من الأهواز، الى صفوف ثوار غوطة دمشق بقيادة حسن الخراط. وحمل معه حبيبته الفارسية. صارت عجوزاً أكثر من أمي. لعلها كانت في صباها ثورية مثل روزا لوكسمبورغ، وفي خريف عمرها صارت مديرة أول مدرسة للبنات في القرية.  
بنات اللاجئين حاسرات الرؤوس، مثل ابنتيها: زهرة وسعاد. الدكتور سعيد غير مكنّى خلاف جميع رجال القرية. لم ينجب ولداً من زوجته، التي كانت تحنّ على ابن اختها كأنه ولدها. 

وأنا كنت أغار على البنت زهرة من ابن خالتها. ولد نحيف مثلي، يفوقني عمراً، ولكنه صحيح الجسم، جميل المحيّا.. لولا بثور لا حصر لها على صفحة وجهه.  
كانت البنت زهرة تفوقني عمراً بعامين، وتفوقني طول قامة. وفي عيادة أبيها تتصرف كما في بيتها، لأن العيادة في بيت أبيها. والبيت نفسه مدرسة بنات في الطابق العلوي. مدرسة خاصة برسوم رمزية جداً.  

صرت أحب يوم الإبرة، وصارت البنت زهرة تحبّ أن تجتاز غرفة العيادة.. كانت تضحك على عجيزتي ربّما. وصار خدّاها يحمرّان، ويهتزان مع خطواتها.  
دبيب خطوات العمر في خطوات الدكتور سعيد، وهذا الارتجاج في خديّ ابنته زهرة. سأكتشف أن شقيقتها الكبرى سعاد ترتجّ في خطواتها أيضاً.. ويرتجّ في جسدها كاعبان صغيران.  

كنتُ غلاماً غـرّاً لم يدرك سن الحلم، ولا يعرف سبباً ليبدأ الارتجاج الأنثوي في الخدين ثم في النهدين.. ثم في الوركين. خطوات أنوثة تبدأ بنداء حياء في الخدين، الى نداء إغواء في النهدين.. وأخيراً، تمشي البنت التي صارت صبية، كما تمشي المرأة مشية مارلين مونرو. وِركان يرتجان، نهود ترتجّ.. ويمحى ارتجاج الحياء في الخدين.  

كان الدكتور صبحي يروح ويجيء في سيارته الفارهة؛ والدكتور سعيد يسافر في باص الناس الى العاصمة الشام. وكانا يتقاسمان كل مرضى القرية، وفي أيام الانتخابات ينقسم رجال القرية بين الدكتورين المتنافسين على مقعد ريف دمشق في البرلمان السوري.  

في أيام وسنوات القلق، أوائل الخمسينيات، كانت تكثر الانقلابات العسكرية، فتكثر الانتخابات المزوّرة، وتتعدد المعارك بين الدكتورين: ابن البلد الشاب؛ والعجوز العربي اللاجئ من ثورة ايران الى ثورة سورية. وأنا أمزق سراً صور الدكتور صبحي، وأوزع علانية صور الدكتور سعيد. وأبي الذي يلغط ساعتين على الواقف مع الدكتور سعيد، يزوره مهنئاً إذا فاز؛ ويزوره مواسياً إذا خسر. وتزورنا الأمّ وابنتاها، لأنها معلمة أختي.  

يوماً بكى الدكتور سعيد، الفقير والثوري والمتحرر، لأن الدكتور صبحي فاز عليه بأصوات الشبعانين في ولائم الانتخابات. أبي الفلسطيني كان بلا صوت لأنه فلسطيني، وأنا وأصحابي الأولاد مزقنا كثيراً من صور الدكتور صبحي.. بلا فائدة.  

في ذلك اليوم كان حديث الدكتور طويلاً مع أبي. خلع سترة الطبيب البيضاء. خلع قميصه.. وبين عظمة المرفق وعظمة الكتف.. كان ذراعاه بلا عضلات. بل كان الجلد شبه ملتصق بالعظم. هذا وسام المناضل العتيق في الاعتقال الاستعماري الفرنسي.. أياماً طويلة مشبوح الذراعين حتى تلاشت عضلات ساعديه.  

صارت جميع أيام الأسبوع مثل «يوم الإبرة « أروح وأجيء بلا سبب أمام عيادة الدكتور/ منزله/ مدرسة زوجته. صارت البنت زهرة تمشي في الطريق فيهتز شيء في صدرها، ويهتز قلبي كثيراً. ويقول لي أصحاب الدكاكين: «يلّلا يا ولد.. روح. استحي».  

فجأة مات أبي. فجأة رحل الدكتور سعيد الى المدينة الكبيرة. فجأة اختفت زهرة الى الأبد.. دون أن أرى دبيب الارتجاج يهبط من خديها الى صدرها.. الى وسطها.

GMT 05:50 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

هل لديك الشجاعة؟!

GMT 05:48 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

الأدوات السياسية

GMT 05:46 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

كيف نتصدى لإيران في الخليج؟

GMT 05:31 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

"الممر"

GMT 05:28 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

عيون وآذان (إسرائيل تتآمر على ما بقي من فلسطين)

GMT 02:12 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

«صاحبة الجلالة» ليست دائماً بريئة!

GMT 02:05 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أرجيلة «حزب الله» وجمر إيران!

GMT 01:46 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

شرعية الإنجاز

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

زهـــرة زهـــرة



يتميَّز بطبقة شفّافة مُطرّزة وحواف مخملية

كورتني كوكس تُهدي فُستانًا ارتدته قبل 20 عامًا لابنتها كوكو

نيويورك ـ مادلين سعاده

GMT 03:24 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

"دولتشي آند غابانا" تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019
  مصر اليوم - دولتشي آند غابانا تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019

GMT 06:16 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة
  مصر اليوم - أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة

GMT 09:04 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية
  مصر اليوم - ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية

GMT 12:48 2019 الخميس ,10 كانون الثاني / يناير

تعرف على تاريخ مصر القديمة في مجال الأزياء والموضة

GMT 03:59 2018 الأحد ,28 كانون الثاني / يناير

تفاصيل جديدة في حادث الاعتداء على هشام جنينه

GMT 10:53 2018 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

العلماء يحذرون عشاق "شاي الأكياس" من المخاطر الصحية

GMT 15:26 2018 الجمعة ,12 كانون الثاني / يناير

ميلان يضع خُطة لإعادة تأهيل أندريا كونتي

GMT 09:19 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

وصول جثمان إبراهيم نافع إلى مطار القاهرة من الإمارات

GMT 08:13 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

التغذية غير الصحية كلمة السر في الشعور بالخمول

GMT 09:09 2017 الخميس ,28 كانون الأول / ديسمبر

طارق السيد ينصح مجلس إدارة الزمالك بالابتعاد عن الكرة

GMT 00:47 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

أمن الإسماعيلية يرحب باستضافة المصري في الكونفدرالية

GMT 18:22 2017 السبت ,09 كانون الأول / ديسمبر

القدر أنقذ ميسي من اللعب في الدرجة الثانية

GMT 09:28 2016 الخميس ,18 شباط / فبراير

عرض فيلم "نساء صغيرات" في الإسكندرية
 
Egypt-Sports

All rights reserved 2024 Arabs Today Ltd.

All rights reserved 2024 Arabs Today Ltd.

egyptsports egyptsports egyptsports egyptsports
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon