حسن البطل
يلهون على رمال شواطئ الاستجمام البحرية، برمي أطباق بلاستيكية. الرامي المحترف يرمي ويعود إليه الطبق. هذه لعبة مطوّرة عن سلاح صيد أسترالي بدائي "معقوف" بطريقة هندسية دقيقة، يسمى "بوميرانج": سلاح مرتد!
لعلّ ما يجري في الضفة وإسرائيل يشبه قليلاً أن ترمي إسرائيل "بوميرانج" الاستيطان اليهودي ليرتد على دولة إسرائيل وجيشها وأجهزة أمنها.
لنبتعد عن ألعاب اللهو وأسلحة الصيد البدائية إلى مقاربة ما بين "تمرّد" المستوطنين الفرنسيين في الجزائر (المستعمرين ـ الكولون) على باريس ـ الجنرال شارل دي ـ غول، حول انفصال الجزائر عن فرنسا، وبوادر "تمرّد" المستوطنين اليهود.
المعمّرون الفرنسيون في الجزائر مارسوا عنفاً ضد المواطنين الجزائريين، خاصة إبّان حرب الاستقلال الوطني، وشكّلوا مجموعات إرهابية "سرّيّة" تحت اسم "الأقدام السوداء ـ لي بات نوار"، وقاتلت هذه ضد الجزائريين، ثم ضد إعلان مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة، شارل دي ـ غول، حق الجزائريين بانفصال الجزائر عن فرنسا، بعد إجراء استفتاء!
إلى عصابات "لي ـ بات نوار" انضم جزء من الجيش الفرنسي في الجزائر، بقيادة الجنرال سالان، وحاولوا القيام بانقلاب عسكري في فرنسا ذاتها، ما دفع الجنرال دي ـ غول إلى زيارة القوات الفرنسية في ألمانيا، لمجابهة الانقلاب بالقوة.. مع خطر انقسام الجيش الفرنسي كما حصل بعد الاحتلال النازي، وممالأته من المارشال فيليب بيتان، رغم أنه كان "بطل" موقعة فردان الفاصلة 1916 ضد الجيش الألماني.
بدون طول سيرة، شكّل الجنرال دي ـ غول جيوشاً من المستعمرات لـ "فرنسا الحرّة" حاربت مع الحلفاء، ثم حُكم على "الخائن ـ البطل" بيتان بالإعدام، ثم استبدله المنتصر دي ـ غول بالسجن مدى الحياة.
صحيح، أن الجزائر وفرنسا (المواطنون الثائرون والمعمّرون ـ الكولون) قصة تختلف عن قصة إسرائيل والفلسطينيين، لكن هناك وجه شبه بين "تمرّد" المعمّرين وبوادر "تمرّد" المستوطنين المزدوج: ضد جيرانهم الفلسطينيين؛ ومن ثم ضد الجيش الإسرائيلي الذي مكّنهم ويحميهم.. أي بين عصابات "الأقدام السوداء" وقطعان المستوطنين وإرهابهم تحت شعار "تدفيع الثمن".
في سبعينات القرن المنصرم، شكّل غلاة المستوطنين اليهود و"التنظيم السرّي اليهودي" وتمّ تفكيكه بعد تورطه في محاولة اغتيال رؤساء بلديات فلسطينيين منتخبين. لكن قويت شوكة الاستيطان اليهودي كثيراً عمّا كان في سبعينات القرن المنصرم، وبخاصة بعد "فتيان التلال" حسب نداء شارون "اصعدوا كل تلّة"، وأيضاً فإن استقلال فلسطين مطروح بقوة أكبر مما كان في تلك المرحلة.
الآن، "فتيان التلال" هم إطار لعمل مجموعات شبابية استيطانية ترفع شعار "تدفيع الثمن" أي ممارسة تعديات على الفلسطينيين وأملاكهم ومزروعاتهم وبيوت عباداتهم، مع "مناوشات" ضد الجيش الذي يحميهم، كما حصل في مستوطنة "يتسهار".
كما في "بوميرانج" فقد امتد أسلوب "تدفيع الثمن" وعبر "الخط الأخضر" إلى المدن والقرى العربية في إسرائيل، ومؤخراً إلى مدينة أم الفحم في المثلث، باعتداء على المسجد (ليبرمان لا يريدها في إسرائيل؟).
من المبكر الحديث عن "حرب اليهود" ودورها في خراب الهيكل الأول والثاني، لكن جذور تمرّد المعمّرين في الجزائر تعود إلى ادعاءات : الجزائر امتداد لفرنسا تحت البحر؟ وأمّا جذور تمرّد عصابات "تدفيع الثمن" فهي تعود إلى امتداد تاريخي يهودي مزعوم في أرض فلسطين، يرقى إلى 4000 سنة (حسب ادعاء نتنياهو!).
يقول البعض في إسرائيل إن الصهاينة أسّسوا دولة إسرائيل، وأن المستوطنين يؤسّسون "دولة يهودا" ما وراء "الخط الأخضر".. وبعد زعيم فتيان التلال زئيف حفير "زمبيش" الذي أقام بؤرة غير شرعية في "غوش عتصيون" اعترفت بها إسرائيل في عزّ المفاوضات، صار لحزب المستوطنين وزير وضابط سابق في القوات المختارة، هو نفتالي بينيت.
بينيت يهدّد بفرط الحكومة إن "جمّدت" الاستيطان، أو أطلقت سراح النبضة الرابعة لأسرى ما قبل أوسلو.. ويدعو لإلغاء أوسلو و"حل السلطة"!
كان موشي دايان قد حذّر إسرائيل من احتمال صيرورة الأراضي المحتلة جمرة في كفّ يدها، وغيره يحذّر من الآن "تمرّد" بعض غلاة المستوطنين حتى على الجيش الذي يسلّحهم ويحميهم.. ولم تبن بعد "حرب اليهود" حسب تعبير غولدا مائير!
أسلوب "تدفيع الثمن" في فلسطين وإسرائيل يوصف بأن أتباعه "خارج القانون" أو يوصف، أيضاً، بممارسة "الإرهاب".. ولكن فقط عندما يهينون قائد اللواء الإسرائيلي، ويخرّبون ممتلكات الجيش، وليس عندما يدعم سلاح الجيش سلاح المستوطنين في التعدّيات على المواطنين الفلسطينيين؟
هناك تشابه بين "الكولون" في الجزائر، والاستيطان في الضفة، لكن من المبكر الحديث عن تشابه في مصير المستعمرين الفرنسيين في الجزائر، ومصير المستوطنين في فلسطين.. لكن المسألة أخطر على فلسطين وإسرائيل من مجرد وصف المتطرفين اليهود بـ "أعشاب ضارّة".. إنهم حشرات سامّة في الأكل.
هناك شيء يمكن أن يزعزع الترابط الإسرائيلي بين : الجغرافيا، الديموغرافيا... والأمن (بقرة الأمن المقدّسة).
"الأيام"