حسن البطل
في المثل الشعبي الفلسطيني ذي المحملين "إن شتّت (أمطرت) أو ما شتّت" غير ما في "إن نجحت (المفاوضات) أو لم تنجح". المحمل الأول للمثل: لا يهمني ولا أبالي إن أمطرت. المحمل الثاني: إن أمطرت أو لم تمطر عليّ أن أقوم بعملٍ ما، مهمّة ما.
ماذا إن نجحت المفاوضات أو لم تنجح؟ إذا نجحت فهذه معادلة مختلّة بين كفّة ميزان الحقوق وكفّة ميزان القوى!
إن لم تنجح، فهذا يعني ما كان يعنيه عرفات: "ليس كل طير يؤكل لحمه"، أي أن "عضلات" المفاوض الفلسطيني ليست في قوة عضلات المفاوض الإسرائيلي، لكن للمفاوض الفلسطيني عظاماً قوية. (سلامة عظام الطفل أهم من رخاوة عضلاته، فالعلّة في العظام تقود إلى الكساح، لكن عظاماً قويّة تعني بناء عضلات مفتولة)!
في محاكمة المفاوض الفلسطيني أنه "ساذج" كما هو الحكم عليه في مفاوضات إعلان مبادئ أوسلو (قال بيريس: كأننا نفاوض أنفسنا) لكن، في الحقيقة كان المفاوض الفلسطيني يستدرج الإسرائيلي، لأن كفة ميزان القوى والواقع كانت لصالح الإسرائيلي.
مثال: بعد أن اقترح الفلسطينيون غزة + أريحا وقبل الإسرائيليون المبدأ، قال المفاوض الفلسطيني: نحن نفهم من أريحا أنها تشمل محافظة أريحا، فطلب رابين إنهاء عملية التفاوض كلها.. وفي النتيجة قبلنا رفع علم ووضع شرطي على جسر اللنبي (اقرأوا مذكرات أحمد قريع ـ أبو علاء).
في مفاوضات أوسلو 2 بالقاهرة، لتوسيع صلاحية الحكم الذاتي إلى مدن الضفة، أثار عرفات أزمة في اللحظة الأخيرة، لأن مشروع الاتفاق كان أقل مما قدّر وطلب.. وأخيراً، وضع تحفظاته كتابة على ذيل مشروع الاتفاق.
في مفاوضات كامب ديفيد 2000 رفض عرفات اقتراحاً من ايهود باراك "كتسوية نهائية" للمطالب، يتضمن ضم 8% من الضفة دون مقابل، والاحتفاظ بالقدس الشرقية، والحرم تحت السيادة الإسرائيلية، والاحتفاظ بربع غور الأردن.. في النتيجة فشلت القمة، وحمّل كلينتون المسؤولية لعرفات، خلافاً للتفاهم بألاّ يحمل المسؤولية لأي طرف. لكن، ما لبث كلينتون أن أعلن "مبادئ حل" قبلها عرفات، وجرى التفاوض وفقها في طابا، وكادت تنجح، حسب مذكرات وزير الخارجية الإسرائيلي شلومو ـ بن عامي.. إلاّ أن إيهود باراك نكص على عقبيه!
في مفاوضات ما بعد أنابوليس، وصلنا إلى مشارف اتفاق نهائي، بما فيه مبدأ المبادلات الأرضية، وتقسيم القدس، وعودة محدودة للاجئين، لكن أولمرت رفض إعطاء نسخة عن الحدود لأبو مازن.
في مفاوضات العام 2010 مع نتنياهو رفض هذا أن تبدأ من حيث انتهت المفاوضات مع أولمرت، أو حتى مبادئ كلينتون، أو مشروع مفاوضات طابا. هكذا أنهى أبو مازن المفاوضات العبثية.
في المفاوضات الحالية "الصعبة جداً جداً" علينا أن نفهم سبب دأب وإلحاح جون كيري، لأن من المهم له أن يحرز اتفاقاً بين حكومة إسرائيلية تمثل أعتى اليمين وحكومة فلسطينية هي الأكثر اعتدالاً.
صحيح، أن مناحيم بيغن، الزعيم التاريخي لليمين وافق في "كامب ديفيد" المصري ـ الإسرائيلي ـ الأميركي على "حكم ذاتي فلسطيني" و"شرطة قوية" لكنه فسّرها بحكم ذاتي للسكان وليس على الأراضي.. ودون ذكر م.ت.ف أو "دولة فلسطينية"!
.. وفي المفاوضات الحالية؟ لاحظوا أن المفاوضات على مستوى المندوبين جرت في 20 جولة، لكن كيري قام بجولته العاشرة، وعقد اجتماعه الـ 21 مع أبو مازن.
المعنى؟ المفاوض الفلسطيني ليس "خرعاً" ولا "ساذجاً" ولا "مفرّطاً" كما وليس مجرداً من "خيارات" إذا فشلت المفاوضات.
لا داعي لوضع أحمال ثقيلة من "الحقوق" على كاهل المفاوض، الذي يفاوض بينما كفّة ميزان القوى مختلّة، وعلاقات إسرائيل بأميركا استراتيجية وبخاصة في تعزيزها ميزان القوى المختلّ بشكل فاحش جداً لصالح إسرائيل.
كل ما في المسألة أن صفحة "النزاع" العربي ـ الإسرائيلي طويت، وصفحة "الصراع" الفلسطيني ـ الإسرائيلي فُتح بابها على مصراعيه.. وهذا هو الإنجاز للمقاوم وللصامد وللمفاوض الفلسطيني، المتهم، ظلماً، بأن مقاومته لم تكن مجدية للتحرير، وصموده لم يكن كافياً، ومفاوضه كان "خرعاً" و"ساذجاً".
المفاوضات هذه تدور بينما "شروط الأمن" الإسرائيلي غير مقبولة من الجانب الفلسطيني؛ وشروط السيادة الفلسطينية غير مقبولة من الجانب الإسرائيلي، والأميركيون يحاولون التجسير بين شروط وشروط، انطلاقاً من: مبادئ كلينتون، مبادرة السلام العربية، مبادرة جنيف، ومشروع إيهود أولمرت للسلام.. وليس أبداً من "حكم ذاتي للسكان وليس للأراضي".
إزاء النقد للمفاوض الفلسطيني، ولأوسلو، ولكامب ديفيد 2000، هناك نقد إسرائيلي مقابل. الفلسطينيون يعضُّون بنان الندم على الاعتراف بفلسطين الـ22% والإسرائيليون يعضون بنان الندم على الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية.
وكيري؟ تارة متهم أنه يميل للجانب الإسرائيلي وتارة يميل للجانب الفلسطيني.. لكن المهم أن مفاوضات كامب ديفيد 2000 كانت وفق مفهوم إسرائيلي: "لا اتفاق على شيء قبل أن يتم الاتفاق على كل شيء". هذا المبدأ صار مبدأ المفاوض الفلسطيني: تحدثنا مع كيري حول كل شيء لكن دون الاتفاق على أي شيء.
لا يُكلِّفُ الله نفساً إلاّ وُسعَها، فلماذا تُكلِّفُون المفاوض الفلسطيني بغير ما في وسعه؟
**
يقول أبو مازن "القوي عايب" ويقول حكيم يهودي "العائب بعيبه يعيب".
نقلاً عن "الأيام" الفلسطينية