مصر اليوم
من حسن البطل إلى غسان كنفاني :
طوبى لك، بالنار اكتويت .. ولسانك لم يذق طعم الرماد.
* * *
في حضور موتك شظايا، سيذهبون الى كتبك، وأتملى صورتك في ضوء النهار الطبيعي.
كنتَ الصاخب في حشد صاخب، وستأتي المراثي كأنك وحدك على المسرح، ويضيؤون حضورك بالأحمر الخاطف والأصفر المخطوف، والأزرق الضيق (ضيق، لأنه قماشة جسد السماء وجسد البحار) .. وأنا اعرف أن وجهك ينفجر بالابيض البسيط بين غمامتين سوداوين.
من يجيد الغضب يجيد الضحك، ومن يجيدهما معا يهرّج بالحزن، كما الورور الأعرج والشحرور.
لن أذهب الى نصّك الحاضر في حضورنا الغابر، وانما الى خط يدك. هل تعرف لماذا قتلوا ابو جهاد؟ اخضعوا خطه الى حساب الزوايا وحساب الدائرة .. ثم أجهزوا عليه.
.. وأجهزوا عليك، من قبله، كأن موتهم الذي رتبوه لك خفية، ونفذوه بك مستعيرين صوت هزيم الرعد، قادر - مثل ثقب اسود - على ابتلاع نجم ساطع في ذروة نضجه وكويكب صغير في اول خلقه : أنت وابنة أختك.
قد يولد الموت من شظايا. لكن، تولد الحياة من غبار الشظايا - يا غسان - ومنذ خليقة الأرض وغبار الشظايا يأتي الأرض على مهل.
.. غير انك اكتويت بالنار، ولم تذق طعم الرماد. طوبى لك .. وطوبى علينا!!
اذا كنتَ متعدداً في مفرد.. فماذا تكون؟ يكون غسان رجل الرجال، فيكون انسانا ينصرف في الثانية من حبر الجريدة، ورقها، وعناوين مقالاتها .. الى رحيق الروح مع الذين كان رئيسهم قبل قليل، فصار صاحبهم ونديمهم من آخر الليل .. حتى اول الفجر. وتودعهم قائلا: لا تقتلوني - يا رفاقي - بانغماسي في الحياة. لا تأخذوني الى تفاصيل اول الفجر.
قرأت نصك مطبوعا من بعيد. رأيت شظاياك مبعثرة .. من بعيد، غير انني عشت حلمك بحيفا.. وكان كابوس يقظة. لك ان تكتوي بالنار (التي كوتني) .. ولي ان أذوق (عني وعنك) طعم الرماد. ولبعض الذين لم يكتووا بالنار ان يجبلوا الرماد بعسل رديء. لا أنا هذا ولا انت من هؤلاء.
والموت قد يبدأ شظايا، والحياة قد تبدأ غبار شظايا انفجار قديم .. وحضور موتك مطر من الغبار اللامع. الرماد سماد .. والحريق رماد .. والحياة سماد الرماد لحياة اخرى، فإن تكن .. فهي رماد سماد لحياة الآخرين. فلتحيَ فينا يا غسان، ولنوفر عليك طعم الرماد.
من رسالتك، بخط يدك، الى ابنة اختك، قبل ان يخطفكما موت واحد:
"أيتها العزيزة: أنت تصعدين الآن، فيما دورنا على وشك ان يتم
"في اللحظة التي سيتم فيها الاستقرار، لن نكون نحن ذوي نفع على الاطلاق. ولسوف يتولى القيادة جيل جديد. اما نحن، فلسوف ننحني جانبا.
"هؤلاء "الآخرون" يا صغيرتي هم أنتم . لسوف ندفع لكم من قلقنا ثمن اطمئنانكم. (..) ان مشيئة التاريخ ان نكون نحن، ونحن فقط، جيل الانقلاب - الانتقال".
"آليت ألا أكون متفرجا. ان أعيش اللحظات الحاسمة من تاريخنا، مهما كانت قصيرة ".
هل قتلوك لأنك حررت في "الهدف" عاصفة "الجيش الأحمر" الياباني التي هبت على مطار اللد؟ او لأنك كررت عبارة وديع حداد الأثيرة: "هذا نضال يستلزم استخدام كل الطرق؛ كل الطرق بلا استثناء".
.. ام قتلوك لأنك حررت "في الأدب الصهيوني" كتابا اول في المكتبة الفلسطينية - العربية. .. أم قتلوك لأنك رجل خرافي: نصف فلسطيني (أي فلسطيني تماما) ونصف اممي (أي أممي تماما).
.. ومع ذلك، هل يصلح الرماد "لزقة لتسكين جرح قديم من الاكتواء بالنار؟ هل نخلط رماد العودة بعسل السلام المغشوش؟
قالت زوجتي منى: انت يا حسن وغسان ومحمود، اكثر ثلاثة اعرفهم تسكنهم فلسطين، حتى انها تحتلهم تماما. عرّفتني منى على أرملتك آني؛ وقدمت لي آني أولادك.
عرّفتني الحياة على من عمل معك آخر الليل، ومن سهر معك حتى اول الفجر.. ثم فرقت "العودة " بين من عرّفوني عليك وبيني!
وقفتُ يوما على ضفة البحر الميت الشرقية، قلت لابنتي : فلسطين هناك. اذا متّ، قفي هناك وانظري الى هنا.
لابنتي حلم "رقم العودة. لن اطلبه مرة ثالثة، فلربما تكبر وتعود .. فلا يكون للعودة طعم الرماد. فلتكتوِ بالغربة حتى تنضج. انت الجمرة .. ونحن الرماد. نحن الجمرة على الأرض وأنت غبار مضيء في السماء .. أو"غبار الطَّلع" أنت!