مصر اليوم
من كان يلقب بـ "فم الذهب" يوحنا.. أو خلافه؟ صلاح الكديمي هو "فم الذهب". لفمه شفتان جميلتان وممتلئتان.. تليقان بحسناء ذات فم شهي. لا تحسبوني غير سوي الميول. خلف شفتي المدير لسان طلق (ذرب، كما يقال) وفي جمجمته عقل نير يغلي كالمرجل. ماذا يهمني اذا كان لهذا الرجل الكهل جسم أشبه بالباذنجانة.
مدير مدرسة دوما الثانوية للبنين، يستحق حقاً أن يُنعى "مربي الجيل". لقد دربني على النطق الصحيح (أو الأقرب للصحة) لسيدة لغات الانسان المصوتة، أي اللغة الفرنسية، أو "اللغة الواوية"، وهو أمر عجزتُ بسبب ضعف سمعي، عن تحصيله من فم أستاذ اللغة الفرنسية "المسيو شادرافيان"، الارمني العجوز، صاحب الشفتين الرقيقتين، واللسان الثقيل.. وفوق ذلك لسان في فم أدرد وأسنان مقلوعة.
كان شادرافيان ممراضاً (كثير المرض)، فكان المدير صلاح الكديمي يسد مسده، كما يسد مسد معلم الفلسفة.. والتاريخ والجغرافيا.
ليست لغة اجنبية مسألة سهلة مع جهاز لتقوية السمع. التلاميذ الشبان لا يهدؤون، وجهاز السمع يجعل اللغط موسيقى خلفية لا تمكنني من التقاط الفوارق اللفظية بين مقطع eu ومقطع eau ومقطع au مثلاً لا حصراً، لأن تنويعات حرف الواو في الفرنسية مضروبة مرتين او ثلاث بالسلم الموسيقي.
لا ريب أن كبير الأساتذة، مدير المدرسة، المربي صلاح الكديمي كان تلميذاً في عهد الانتداب الفرنسي على سورية، فتشرب فكر السجال والجدال، واطلع جيداً على علمانية/ علموية منهج تدريس "تاريخ الاديان"، ناهيك عن ثقافته الواسعة بالثورة الفرنسية الكبرى، تاريخياً وأدبياً واجتماعياً.
كنت مثلاً، أخاله خطيب الثورة البرلماني، المسيو ميرابو، عندما يقتبس، بالعربية والفرنسية، كيف قال ميرابو لمندوب الملك، الذي جاء بأمر "حل الجمعية الوطنية". "قل للملك. نحن هنا نواب الشعب.. ولن نخرج من هنا.. إلا على اسنّة الحراب".
لم يكن يغمط، تماماً، حق مونتسكيو او بروبسيير، غير ان العنف الثوري عند هذا الاخير لم يكن يروق له كثيراً، ربما لأننا تلاميذ في ميعة الصبا سريعو الهياج، وخاصة في مرحلة الانقلاب الانفصالي السوري العام 1961.
شفتان أنثويتان. لسان فصيح. عقل نيّر.. والدروس تصير نوعاً من "محاضرات" خارج المنهاج (لسبب ما كان يكره منهاج وزارة التعليم الذي وضعته، مبسطاً، حكومة الجمهورية العربية المتحدة).
"أين وصلتم مع استاذكم" .. ثم يقلب الكتاب، ويطوف بنا في بحر معلوماته. في دروس التاريخ، حدثنا بإسهاب عن مجريات اجتماع "السقيفة" لاختيار الخليفة الأول.. كأننا أمام برلمان سوري قبل الوحدة مع مصر (لاحقاً، كأننا نشهد جلسة من جلسات "الجمعية الوطنية الفرنسية).
دروس مشوقة من أستاذ ينطق مخارج الحروف واضحة، فصرت في غير دروس الفرنسية أتعلم لغة "قراءة الشفاه"، أو أتقن هذه اللغة.
كان صلاح الكديمي مديناً لي بالذات. قرعة عشوائية وضعتني، لما كنتُ في الصف السادس، في شعبة اللغة الفرنسية. رحت أبكي إلى أخي الكبير (يتحدث الانكليزية بلهجة انكليزية) راح أخي يحاجج المدير: من سيساعد حسن؟ لا أحد في البيت يعرف الفرنسية. صارت حجة أخي حجة عليه وعليّ: إذاً، ليكن واحد في الاسرة يعرف الفرنسية.
لذا، عندما كان صلاح الكديمي يقتبس من ميرابو، يكتب الاقتباس على اللوح بالفرنسية، ويطلب مني (بالذات) أن أتلوه.. ثم يصوّب لي.
كل المدرسة، وجميع المعلمين، يعرفون أنني أفضل تلاميذ المدرسة في مادة "الانشاء" بالعربية - لكن صديقي وزميلي سيف الدين الجزائري (والده جزائري حارب في "الفرقة الاجنبية" مع الفرنسيين في ديان- بيان- فو) ظل يسبقني بالفرنسية. أنا لا أحب جنود "ليجيون ليترانجيه" لأنهم قتلوا حرس البرلمان السوري بالسواطير زمن الانتداب الفرنسي. فصاحة ميرابو شيء، وسواطير الجنود السنغال شيء آخر.
انتقلت أسرتي الى دمشق، فنقلت مدرستي إلى دمشق في الصف الحادي عشر، العام 1963. في العام 1974 ذهبت "شفاعة" إلى مدرسة كان ابن أخي المشاغب طالباً فيها. فوجئت أنه مديري السابق صلاح الكديمي. قال: "الولد طالع لعمه".
كان المدير قد أهداني مجموعة قصصية لتشيخوف. واحدة منها عن شاب تعلم الفرنسية بالطريقة الصعبة التي علمني إياها.
نقلاً عن جريدة "الأيام"