حسن البطل
هذا كتاب "الكتاب" ظلّ يحاولني أن أحاوله. عشرة أيام أقوم عنه وأقعد إليه. أعود لأجلس .. ربما الى خير ما كُتب بالعربية على مدى عقود. قرأت "الكتاب -2" تَرَفاً في الصباح؛ ونَزَقاً في المساء .. وبينهما توزّعتُ على قراءته كيفما اتفق لي أن أتفق، مع هامشه (غير الهامش). مع متنه (المراوغ)، او مع تذييلات ذات رؤوس حادة، وأذناب مديدة كأن المتن يشدّ مذنباً بذيل طويل. "الكتاب" الأدونيسي الثاني زبدة كُتُبه، وما قرأ في حياته من كُتُب. أدونيس هو كاتب الخاصة (مفكراً ثم شاعراً) لكن كتابيه الأول (الرمادي)؛ والثاني الأكبر (الأسود) .. والثالث الذي يعكف عليه (أخضر؟ أحمر؟) تشكل كتابا لـ "خاصة الخاصّة". مشكاة ضوء هذا الشاعر / المفكر / الصوفي / المتعدد في المفرد/ المفرد في المتعدد. لكنه، يهدي القارئ خطأه اليقيني: "خطئي أن ضوئي قريب، وشمسي بعيدة"؛ "اللهم أرحني منهم؛ وأرحهم مني" قال الإمام علي البليغ. كتاب ذو متن وهامشين: أيسر وأيمن يوزع فيه الكاتب دهاءه وصوته منسوبا الى المتنبي. يأتيك الصوت قادماً من تحت الماء، أو يأتيك محمولا على أثير الهواء، وصوت ثالث تصغي لصداه عبر الصخر. فكيف تصغي لصوت واحد، اذا كان كتاب الكاتب "موشور" الصوت؟ "سر من رأى" .. وسرّ من قرأ؟! لا يوجد إصباح أمثلُ من دجى الليل الطويل - كما قال صاحب احدى المعلقات - وهذا صاحبنا يستعير المتنبي (اسماً، سيرة، .. مثالا وأمثولة ،وشاعر مرحلة) ليحاول معلقة ثامنة في غير زمن المعلقات. انه لا يرى في "الافصاح" سواء السبيل، لأنه : "في كل مكان قتلى، ونُبوّات" ولأن حال العامة هو: "باسم ماضٍ وآتٍ" "أكلوا كي يقتلوا، وصلّوا كي يأكلوا" "ما الذي تفعله الصلاة" "لتحرّر من موتها، الحياة"؟ لغة أدونيس هي محرابه، حربته، وحربه: "لغةٌ تتوالد فيها "هي في آنٍ محراب حرابٍ يتبطّنه محراب صلاة" أيضاً: "في فم الأرض سمّ غريب "يجرّ الهواء بيد تتبرّك بالله وبالأنبياء" ويقوم الشاعر / المفكر بإعادة تقليب أوراق لم يعد يقلبها إلاّ خاصة الخاصة: كيف لا نتقصّى كلام النبي ومعناه: " لم ينزل الوحي وأنا في لحاف امرأة غيرها" وعَنَى بذلك عائشة. كيف ننسى حديثاً لها: "لم أغِرْ من نساء النبي، غرتُ منها" وتقصد عائشة خديجة. وعائشة تقول: "أذكر الآن موت النبي كأني أراه: "مات في نوبتي / بين رأسي ونحري / خالطاً ريقه بريقي".
***
كتاب أدونيس كتاب تقويل واكثر. كتاب تأويل واكثر. كتاب الصعاليك / العمالقة ؛ والمفكرين / التائهين. كتاب لتاريخ القتل والعقل في حضارة الإسلام. يقول في "هامش" من هوامش كتابه الأول : "عجباً كيف امتلأ عصر الراشدين / بالقتل، بالقتلة .. وبالقاتلين". وفي كتابه الثاني : أمر الخليفة المنتصر بقتل أبيه الخليفة المتوكل .. ليخلفه. فلما خلفه قال للخليفة المقتول، الذي كان أمر بترك الجدل في القرآن: مخلوق أم منزل: "يا أبي. لم أجئ منك، لكن لقاحك أثمر من سُمّي المنتصر.. غير أني من طينة لم تلدها وتعجز عن ان تراها. وأنا لا أباهي ولا افتخر، بل أقول: اعتزلت الدروب التي رسمتها خطاك، ووجهت وجهي لدروب سواها. قتلتك حتى أحرر عطر النبوة من وردة الأبوة ".
***
يحدث أدونيس المدن التي تتحدث اليه (مكانة خاصة لحلب سيف الدولة / المتنبي وخولة). يغربل حَبّ الدهريين، المانويين، الزنادقة "أصحاب الاثنين ".. عن زؤان مفسريهم وجلاديهم: "أعرف ان بكاء الناس شديد مني لكن سيكون عليّ شديدا ايضا، حين اموت". .. وهناك البساطة عارية الروح حتى من روحها: " زهرة طافية فوق ماء لها حين تنأى جسد باذحٌ ولها حين تدنو قدم حافية".
***
جاء "الكتاب -2" الصادر عن "دار الساقي" بسعر 30 دولارا. خفت ان لا أجده في مكتبة الشروق بعمان، فأوصيت عليه من بيروت الى عمان وحملت وصية صديقي بنسخة أخرى إلى مكتبة الشروق.. فحظيت بالأخيرة.. وعدت بنسختين: واحدة لي والثانية لصديقي. وأنا وإياه ننتظر الجزء الثالث الذي يعكف عليه أدونيس. اعرف أدونيس عن قرب معين، وأحب ان اسمعه يستمع بصمت إلى حيرتنا الصاخبة، وكيف يلعب بالزهر، وبخاصة "لعبة الـ 31".. لم اوافقه رأيه مطلع ثورة الخميني، فأبلغ إلى ابنتي، لاحقا: كان رأي والدك هو الأصوب. وأظل ارصده يصوب حيرته في حيرتنا.
نقلاً عن جريدة الأيام