حسن البطل
"الغائب حتى يحضر"، وأنا ثالث أولادها الأحياء. أقلهم وسامة.. وأطولهم غياباً. "المريض حتى يشفى"، وكنت ممراضاً في طفولتي. "الصغير حتى يكبر".. وصرت أصغر اولادها الأحياء، بعدما سقط أصغر اشقائي .. فتمنيت ان لا أموت في حياتها، حتى لا تبكيني كما بكت اصغرنا، أكثرنا وسامة .. وأشجعنا.
بكى شاب أمه بكاءً حاراً، فانتهره شيخ: "احمد ربك الذي أكرم أمك فجعلك تدفنها، ووفر عليها أن تثكلك في حياتها".
تناوب اولاد مريم، أم حسين، فصل الغياب الطويل، منذ اطلت النكبة بقرونها القاسية، او منذ خروج الطيراوية من طيرة الكرمل. بقي بعلها أبو حسين وباكورة اولادها حسين، وثانيهم عبد الرحمن صامدين في حصار الطيرة.. شهرين بعد قيام اسرائيل.
للولد الغائب ركعتا صلاة للمولى، تؤديها الأم بعد الصلوات الخمس. عشر سنوات، حتى عاد بكرها الجريح - الأسير، متسللاً، الى الأردن فسورية. ستدلني ابنة خالتها، رسمية، الباقية في الكبابير: "هناك، تحت شجرة الكينيا، ترك أبوك مصباح ولده حسين جريحاً". سأرسل لأم حسين صورة الدار في طيرة حيفا، ولشقيقي حسين صورة الشجرة التي شارف على الموت نزفاً تحت أغصانها.
قبل عودة بكرها حسين، ستصلي مريم عباس زيدان، ليوفق الله نجلها الثاني، عبد الرحمن في غربته بالديار السعودية، وعمله مع شركة "أرامكو". كان يعود، كل عامين، ليدس المال، ليلاً، في "ساكو" الوالد المعلق وراء الباب!
سينادي العمل الفدائي ابنها الأصغر سعيد. ستصلي أمه ركعتين بعد الصلوات الخمس ليحفظه الله. سأراها تبكي أجمل اولادها وأصغرهم .. وأشجعهم!
كانت تناديني، مداعبة: "حسن الوبش"؟ فقد حملت اسم أحد اولادها الذين ماتوا. كان رضيعاً (من عادة أمي ان ترضع اطفالها عامين حتى يطلبوا الفطام بأنفسهم). تعربش حسن الاول على صخرة في سفوح الكرمل.. ثم تدحرج جثة هامدة. حملت أنا اسمه، بعد عامين، وأعطاني عمره لأنجو من الموت، عشر مرات ربما، في حرب بيروت.
.. أعطاني عمره، لأرسل لها من نيقوسيا حفنة من تراب ارضها (واد ابو عبد الله)، وحبات من زيتون ارضها. ستضع التراب في صرة من قماش.. وتتلو وصيتها: هذا التراب تحت رأسي عندما يحل أجلي.
أنا "حسن الوبش"، حسن الثاني، الذي سأغدو، من يومها "الشاطر حسن".. سأرسل لها من رام الله، كل عام، زيتا وزيتوناً .. وسترسل لي من الشام، اولاً بأول، طقوس الوداع البطيء: منديلي الاول الاخضر. حصتي من سبحة العقيق اليماني.. وسترة أثيرة لأخي القتيل.
ستزورني أمي، في قبرص، كل صيف. سأحقق لها أمنيات صغيرة: بافوس، مدينة على الساحل الغربي لجزيرة قبرص. هناك ستتذكر أمي اسم كل عشبة أرض ساحلية لم ترها منذ العام ١٩٤٨. سترى، للمرة الثانية، نبات الشومر "في أرضه". ستأخذ بعض البذور الى حديقة الدار في الشام. ستعود إليّ بعد عامين ببعض بذور البذور.. ومعها نبوءة عودتي الى أرض فلسطين: قالت أم حسين: تحّن البذرة الى أرضها. ازرع الشومر في حديقة دارك بنيقوسيا، فقد تكون بشارة عودة "بذرتي" الى ارض فلسطين.
كانت الثمانينية، ام حسين، تمشي وئيدة على شاطئ بافوس. وقَفَتْ .. وتحسّرت: "والله من يوم ما اخذني أبوك ما دندلت إجْرَيِّ في ميّة البحر". "شمّري ثوبك وخوضي البحر يا أمي"، لكن حياءها قال: "على وجه الصبح، بعد صلاة الصبح". "صورة تاريخية" لتضحك بنات حفيداتها في الشام.
***
** المنديل الأخضر: اربعون عاماً، وذلك المنديل في خزانة أمي. كنت في الخامسة عشرة، ولم يكونوا قد اخترعوا مناديل الجيب الورقية. صرت في الثامنة والستين.. وذلك المنديل، المطوي تماماً، انقله من جيب بنطال الى جيب بنطال آخر.
** سبحة العقيق: ساعدني زميل يمني على انتقاء أقدم سبحة عقيق، مئوية الحبات، من سوق صنعاء العتيق. هدية العمر من "الشاطر حسن" الى التي قالت له، يوم استغرب ان تسمي كل عشبة باسمها في بافوس: "أمك أم".
في رام الله، ستعود اليّ حصتي من سبحتي. ستقسمها ٣٣ حبة لكل ولد من اولادها الاحياء، بعد عشرين عاما من التسبيح. سأقفل على "الكنز" في حقيبة المنافي الاربعة.
** سترة أخي: جاكيت صيفي ايطالي فاخر، بين اجازة قصيرة من "العمل الفدائي" واخرى اقصر. سيعدّلها الخياط قليلاً.. وسأعبر بها جسر الاردن ذهاباً واياباً. ستبكي أمي تأثراً، اذ اخبرها ان أخي القتيل يعبر الجسر معي.
***
** صورة الأبد: هل كنتُ نائماً وقت الخروج من طيرة الكرمل؟ سأبحث، قرب سيلة الظهر، عن ذلك "الكوع الخطير" الذي لم يعد كوعاً ولا خطيراً.
كنت في الثالثة والنصف، عندما بدأ سفر غياب الاولاد عن أمهم. سأرى أمي، وقد انقلبت بنا السيارة، حاسرة الرأس.. "مخلوعة" الذراع الايمن، تمزق حطتها البيضاء بأسنانها ويدها اليسرى، وتعصب جراح اخوتي.
كان اصغرنا "أبو مشهور" في شهره التاسع.
سيحمل أثر "الفشخ" فوق جبينه. سيموت في الـ ٢٦ بعد "فشخ" قاتل.
في ذكرى رحيلها العاشر، سأقول لمن قالت : "أمك أم" أن "ابنك ابن".
***
انتقلت الوالدة إلى رحمته تعالى في الشام، عن عمر يناهز ٩٣ سنة، دون أن يتمكن ولدها من القاء نظرة أخيرة .. أو زيارة قبرها.
نقلاً عن جريدة "الأيام" الفلسطينية .