بقلم : حسام عيتاني
الحراكان السوداني والجزائري؛ سواء كانا عوداً على بدء الثورات العربية، أو مرحلة جديدة تختلف عما شهدته الأعوام الماضية من مساعٍ باء أكثرها بالفشل للخروج من المأزق التاريخي العربي، إلا إنهما يشيران إلى الأزمة القائمة والمستمرة في بنى جل الدول والمجتمعات في هذه المنطقة.
التحذير مما يجري في البلدين العربيين الأفريقيين الكبيرين، والتهويل بما أصاب سوريا واليمن وليبيا وغيرها من دمار وغرق في حروب أهلية وكوارث إنسانية، وتقديمه على أنه مسار وحيد للأمور، يختزل فهم التاريخ بالعبارة المدرسية شحيحة الذكاء عن أن التاريخ «يقدم الدروس والعبر» للأجيال المقبلة حتى لا تكرر الأخطاء السابقة. في واقع الأمر، لا يبالي التاريخ كثيراً بمن يستخلص العبر وبمن يسير في الدروب ذاتها المفضية إلى الهاوية. فالتاريخ يقترح طرقاً مختلفة تتشارك كلها في غموض المآلات، وتمضي كل تجربة في طريق حتى نهايته التي تقررها جملة ظروف سياسية واقتصادية وثقافية ودولية متداخلة ومعقدة. وما فشل في سوريا ليس بالضرورة أن يلقى المصير ذاته في السودان. يضاف إلى ذلك أن الأحداث والثورات والانتفاضات التي شهدتها الدول العربية في الأعوام الثمانية الماضية، أدت في إخفاقها المأساوي إلى تسليط الضوء على حقائق كانت غالباً موضع تجاهل واستخفاف.
من الحقائق التي تشكل إحدى سمات الأزمة العربية هي أن الرفض (رفض النظام والحاكم والسلطة) أوضح كثيراً من الطلب (طلب العدالة والحريات العامة والديمقراطية)، وفي كل مرة كانت المعارضة تحقق إنجازات سواء في فرض تنحي الحاكم أو فك سيطرته عن مناطق واسعة من البلاد، كانت الفوضى والتطرف والتدخل الخارجي الكثيف تتولى القضاء على أي وجه إيجابي من وجوه التخلص من الاستبداد.
دعونا لا نعود إلى السجال القديم عن دور أنظمة الاستبداد في تجويف المجتمعات والقضاء على القوى القادرة على تشكيل بدائل سياسية، وعن أن «الإسلام الجهادي» صنيعة هذه الأنظمة التي وجدت نفسها في حال اتفاق موضوعي مع خصومها الجهاديين للقضاء على الثورات وعلى المضمون العدالتي - الديمقراطي فيها. فهذا التشخيص، على صحته، يظل جزئياً ما لم يأخذ في الاعتبار أن المبارزة التي شهدتها بلدان الثورات العربية بين شكلين من الشرعية؛ شرعية النظام القديم وممارساتها القائمة على تحالفات راسخة طائفية وقبلية في مكان وبيروقراطية طبقية في مكان آخر، وشرعية ثورية تستند إلى مطالب الحرية والعدالة والديمقراطية، لم تكن مبارزة متكافئة وانتهت إلى هزيمة قوى الثورة.
لا معنى هنا لاستعادة مقولات الطليعة والجماهير المعبأة والواعية لمصالحها وفق برنامج تغيير واضح. جلي أن الأمور لم تكن يوماً في عالمنا العربي بهذه التراتبية أو الميكانيكية؛ بل كانت دائماً مفتوحة على الولاءات الأهلية التي تستطيع فيها بنى النظام القديم المناورة واكتشاف الثغرات وإخماد مطالب التغيير بعد إلصاق صفات الإرهاب والعمالة والخيانة بها.
وقد يكون من العسف حض المطالبين بعدم ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة أو باستقالة الرئيس عمر حسن البشير، بوضع تصور لشكل الحكم الذي يريدون إقامته في بلديهم في المستقبل القريب. لكن من المهم الانتباه إلى أن شرعيات الأنظمة القائمة قابلة للاستمرار إلى ما لا نهاية ما لم تبرز شرعية بديلة عند قوى الاحتجاج والاعتراض تزيد على إرادة إسقاط النظام الذي بات قسم من شرعيته يقوم على غياب البديل. وليس سراً أن البدائل التي ظهرت في بلدان الثورات العربية والمتمثلة في تنظيمات «الإسلام السياسي» و«الجهادي» فشلت فشلاً ذريعاً في بناء أي شرعية بديلة، في حين أن القوى والشخصيات الليبرالية والديمقراطية انكفأت سريعاً أمام عنف «الإسلام السياسي» واستعداده لاستخدام أساليب القمع والاستبداد بقسوة لا تقل عن تلك التي كانت تمارسها الأنظمة السابقة.
وثمة مشكلتان متوازيتان في النظر إلى المستقبل العربي: الأولى هي الاعتقاد بأن بقاء الدولة العربية بشكلها الحالي، قدر لا رادّ له، وأن مجتمعاتنا راضية بما هي عليه بسبب سوء البدائل وبؤسها. والثانية تتلخص في الظن بأن الثورات العربية قد انطلقت، وأن الإخفاقات السابقة ليست سوى نكسات مؤقتة على طريق التغيير والدليل على ذلك ما يجري اليوم في السودان والجزائر.
والحال؛ أن التاريخ يستمتع بالمفاجآت فيظهرها في الأوقات والأماكن غير المتوقعة على نحو يدهش دارسيه والقائلين بالحتمية وبالقوانين الناظمة لسيرورته. وإذا كان من دروس وعِبر يمكن استنتاجها من الثورات العربية في هذا العقد، فهي أن معرفتنا بمجتمعاتنا ودولنا أقل كثيراً من أن يتنطح أيٌ كان لإطلاق أحكام مبرمة، ليس حول ما سيجري؛ بل أيضاً حول ما حدث في الماضي القريب وما زال طرياً وحياً في الذاكرة.
نقلا عن الشرق الاوسط
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع