أسامة غريب
كنت أسير بالشارع 42 فى قلب نيويورك أتأمل لافتات العروض المسرحية التى تملأ المنطقة لأختار منها عرضاً أقضى معه السهرة، عندما سمعت صوتاً ينادى من بين الزحام: أستاذ غريب..أستاذ غريب. هل تنادينى؟.. تساءلت. رد الرجل الخمسينى: نعم أولست أنت فلاناً؟ قلت: بلى..أنا هو. قال: أهلاً بك فى نيويورك. شكرته وسألته إذا كان يقرأ لى، فأجاب: حتى الأسبوع الماضى لم أكن قد سمعت بك، لكن بعض الأصدقاء أشاروا نحوك عندما كنت تجلس فى المقهى الخميس الفائت، وانقسمت آراؤهم إزاءك ما بين مُحب متحمس وناقم متأفف!. ابتسمت قائلاً: لن تستطيع أن ترضى الجميع وأنا متعود على وجود المحبين والغاضبين. قال: بعد ذلك بدأت أدخل على النت لأقرأ لك وأتعرف عليك. قلت فى ود: وماذا وجدت؟ رد: لن أجاملك..أنا غاضب أشد الغضب مما قرأت لك.
لم أعلق وتركته يكمل: قرأت لك مقالاً تحدثتَ فيه عن أن الناس فى نيويورك يتبولون فى محطات مترو الأنفاق ويملأون المصاعد داخله بالبول الفائح.. فهل هذا يصح؟ سألته فى دهشة وقد أثار كلامه فضولى: ماذا تقصد بهل هذا يصح؟ أن يتبولوا فى المترو أم أن أتناول هذا بالكتابة؟ قال: هل يصح أن ترمى نيويورك بهذا الكلام المسىء؟ ألم تجد فى هذه المدينة العظيمة ما يثير قلمك سوى هذه الملحوظة التى تمثل تجنياً وافتراء؟. كان الرجل يتحدث مدافعاً عن المدينة ببسالة وأنا أنظر إليه متعجباً..هذا الشخص لم يقرأ لى، وذلك الذى يتحدث عنه لم أكتبه فى مقال يصف نيويورك كما يزعم، لكنه مجرد تغريدة سريعة على تويتر كانت وليدة تجربة صادقة بعد أن ضاق صدرى وتشبع أنفى بالبول المعتق الذى يتميز به مترو أنفاق نيويورك أكثر من أى مدينة أخرى. أحسست بالضيق وأردت إنهاء المحادثة فقلت له: ربما نلتقى مرة أخرى فأشرح لك الأمر، لكنى الآن على موعد لا أريد تفويته فاعذرنى.
قال: لا.. أرجوك لا تنصرف قبل أن توضح لى الأمر لأن ما كتبته جرحنى كمواطن يعتز بجنسيته الأمريكية كما يعتز بمصريته. قلت وقد بدأت أتغير: وهل هناك مَن خدش أو لطّ كبرياء سيادتك الوطنى؟ هل أنت قيّم على هذا المدينة وقد تركها عمدتها فى رعايتك حتى يعود من العمرة؟ هل تستطيع أنت أن تدخل إلى هذه المحطة و(أشرت إلى محطة تايمز سكوير) دون أن تسد أنفك من الرائحة الكريهة؟ قال: حتى لو كان ما تقوله صحيحاً فإن الكتابة لها أصول، والقلم مسؤولية، ولا يجب أن تستخدمه فيما يجرح الناس. نظرت إليه فى ذهول وقد أدركت أن حالته متأخرة وقلت فى هدوء: قل لى يا أستاذ.. من أنت وماذا تعمل؟ قال: أنا أقف هنا أبيع تسالى ومقرمشات. قلت وقد عاودنى الابتسام: طب بص يا بتاع المقرمش.. أنت هنا فى بلد حر ومن حق أى إنسان أن ينتقد أوباما نفسه وليس فقط محطات المترو، فكيف تكون فى أمريكا وتتحدث مثل مقدمى برامج التوك شو فى مصر؟ قال: افرض أن أخى بمصر قرأ ما كتبت.. ماذا يقول عنى.. إنه قد يظن أننى أعيش فى مكان قذر!. قلت وقد وصلت لآخرى: حقك علىّ أنت وأخوك وعائلتك كلها. قال: هذا لا يكفى! قلت: قاضنى إذن يا ابن المجنونة.. قلت هذا وانطلقت أعدو بعيداً قدر المستطاع خشية أن يلحق بى فيدمر ما تبقى من الليلة!