أسامة غريب
كل سنة فى الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر عند حلول ذكرى وفاة محمد فوزى أجدنى راغباً فى أن أكتب عنه من أجل إحياء ذكراه عند من لا يعرفونه، غير أن مشاعرى تخذلنى وأحس أن أى شىء أكتبه سيكون دون قدر هذا الفنان العظيم. سبب آخر للتقاعس هو أن الكتابة عن موسيقار فذ مثل محمد فوزى قد لا تصل للناس بالطريقة التى أحسها، فمثلاً إذا قررت الحديث عن أغنية «يا ليالى الشوق» سأجد الحديث يتدفق عن كلمات الأغنية وهذا يَحسُن أن يكون مكانه مقال عن الشاعر حسين السيد، وإذا أردت أن أشرك القارئ فى إعجابى بأغنية «أى والله» سيذهب الثناء للشاعر مرسى جميل عزيز.. ونظراً لأننى غير قادر على شرح الموسيقى بالكلام، ولأن الموسيقى يقدمها العازفون لا الكُتاب، فإن مصير الكتابة عن أعمال محمد فوزى سيكون تمجيد من كتبوا أغانيه وهم على روعتهم ليسوا موضوع مقالى!
إن عظمة محمد فوزى، الذى أتى من طنطا سعياً وراء المجد، تكمن فى أنه يوم أن وطأ القاهرة كانت تزخر بأساطين الملحنين من العيار الثقيل أمثال محمد عبدالوهاب ورياض السنباطى وزكريا أحمد والقصبجى، وهؤلاء جميعاً لا تسهل منافستهم بمثل أدواتهم وطريقتهم ونغماتهم، ومنهم الشرقى الأصيل الذى لم يتخل عن أسلوبه المحافظ كزكريا أحمد، ومنهم المجدد بذكاء وبحساب مثل عبدالوهاب، والجامح فى مزج الشرقى بالغربى مثل محمد القصبجى.. ولعل هذا ما ألهم فوزى أن يصنع لنفسه كرسياً وسط هؤلاء من خلال نغمات غير مسبوقة فى بساطتها ورقتها وعذوبتها.. نغمات سقاها من روحه فخرجت تشبهه.. لطيفة، خفيفة الدم، سهلة الحفظ والترديد وراسخة فى الذاكرة فى نفس الوقت. ومن أراد أن يختبر كلامى هذا فليستمع إلى مقطوعتيه «فتافيت السكر» و«تمر حنة» ليفهم مَن هو محمد فوزى. ولعل فوزى هو الوحيد تقريباً الذى يمكن الاستمتاع بأفلامه الغنائية التى قدمها فى الأربعينيات والخمسينيات حتى الآن، فباستثناء عبدالحليم حافظ لا يوجد مطرب تسعدنى أفلامه فى تلك الفترة.. وأنا لا أرى فى إطار معارفى على الأقل من يستطيع اليوم الصبر على متابعة فيلم سينمائى لعبدالوهاب أو أم كلثوم أو فريد الأطرش أو عبدالغنى السيد أو عبدالمطلب، وكلهم علامات فى دنيا الفن، لكن أفلامهم لم تكن خفيفة الظل، وأداءهم لم يكن حميمياً، والأغانى فى تلك الأفلام لم تُشعر الناس بأن أخاهم وابنهم وصديقهم هو الذى يغنى.
غير أن الحنين لهذا الفنان وأعماله الجميلة يملؤنى أسى على ما آل إليه مصيره فى سنواته الأخيرة. لقد كتب الكثيرون واستفاضوا عن تأسيسه شركة «مصر فون» للأسطوانات التى قدمت للجمهور المنتج الموسيقى بأسعار رخيصة، وكتبوا عن صدمته عندما قامت السلطة بتأميم مصنع الأسطوانات وشركة الإنتاج وتعيينه موظفاً تحت إمرة الأفندى الذى وضعوه على رأس الشركة.. لكن ما أغفله معظمهم هو أن محمد فوزى كان على استعداد أن يتقبل هذا الإجراء المجحف لو أنه شمل الجميع، أمّا أن تؤمم شركته هو فى حين يتركون شركة صوت الفن التى أسسها عبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب فإن هذا ما كان خليقاً بأن يدفع الدم فى النافوخ ويأخذ جزيئات الجسم إلى سكة الاضطراب ومن ثم الوقوع فريسة مرض غريب غرابة ما فعله به الظالمون!