مصر اليوم
رحلة الطائرة الى اليابان أو الى أمريكا شاقة ومرهقة حتى لو كنت تجلس بالدرجة الأولي، فالساعات الطويلة التي يقضيها الراكب على كرسيه تشكل مشكلة تحتاج الى ان يجد حلاً لقطعها.بعض الركاب ممن لا يعرفون الحلول الوسط يلجأ للحل الجذري فيغيب عن الوعي بعد ان يتناول حبة منومة ولا يصحو قبل ان تحط الطائرة على الأرض.. لكن هناك من يسلكون سبلاً أخرى أقل راديكالية كمشاهدة الأفلام أو القراءة أو الدردشة مع الراكب المجاور، وبعضهم يستخدم حزمة مما فات كله.
كنت عائداً من نيويورك وجاءت جلستي بجوار طبيب مصري أمريكي هو واحد من كبار جراحي العظام في أمريكا، وسرعان ما تعارفنا وبدأ بيننا حوار.كانت النية ان أستغل وقت الرحلة الطويل في الكتابة، ومن تجربتي فان جو الطائرة والظلام الذي يلف المكان بعد ان يتم تقديم وجبة العشاء وتطفأ الأنوار.. هذا الجو يناسبني تماماً للهيام في بحر الأفكار.. الجو الذي تكون فيه وسط الناس دون ان يكون معك أحد في آن.
لكن تعرّفي بالأستاذ الطبيب أغراني بتأجيل البدء بالكتابة، والاستغراق في الحوار مع هذا الرجل الذي قضى خمسين عاماً من عمره في أمريكا التي سافر اليها لعمل الدراسات العليا فاستقر بها وتزوج وأنجب وبني مستشفى وصار علماً من أعلام الطب. الحديث معه شيق فهو متفتح العقل متقد الذهن على الرغم من سنه الكبيرة، مطلع على ما يجري في العالم ومتابع عن كثب لما يحدث في مصر، وهو على هذا مستمع جيد شغوف بأن يعرف الجديد ويتعرف على وجهات نظر قد تكون غريبة عليه!.. لهذا كله فقد أخذنا الحوار الذي دار في جو من الألفة والحميمية وبدا ان كلا منا يعرف الآخر منذ زمن طويل.لهذا فقد كان مفاجئاً ان يقطع حوارنا صوت نسائي أتى من الصف الذي يجاورنا.. صوت امرأة غاضبة مغطاة ببطانية ولا يظهر منها سوى شعر منكوش وعينان تلمعان في الظلام.قالت: حرام عليكم يا ظَلَمة.. ما أنتم؟ ألا تحسون؟ ألا تشعرون؟.. ست ساعات مضت من زمن الرحلة وأنتم لا تكفون عن الثرثرة والكلام.. خرقتم طبلة أذني وأقتحمتم الجمجمة.. لقد دفعت ثمن تذكرة درجة أولى لأنعم بالهدوء والسلام وأنام طوال زمن الرحلة دون ان يضايقني أحد، فاذا بي أجد نفسي في محاورة تدور فوق رأسي تشبه محاورات اليونانيين القدماء الذين كانوا يستمتعون بالجدل ولا يتعبون أبدا!.
ألجمنا الموقف فظللنا ننظر للمرأة ثم ننظر لبعضنا البعض في صمت ولا ندري بماذا نرد على المرأة الغاضبة التي عاودت الصياح بعدما أغراها سكوتنا فانطلقت مواصلة: لماذا لا تشاهدون التلفزيون مثلما يفعل الناس؟ لماذا لا تقضون الوقت في القراءة الصامتة، بل لماذا لا تنامون مثل بقية بني البشر؟.. ان الموعد المسائي لاقلاع الرحلة يؤكد ان جميع الركاب قد وصلوا للمطار منهكين بعد قضاء اليوم بطوله في قضاء الأعمال، لذا فهم بين نائم ومسترخٍ.. أنتما الوحيدان أصحاب الدماغ المصفحة، لا تتعبان ولا تيأسان ولا ترقّون لحالي. وهنا وجدت رفيقي الطبيب يخرج من جيبه حبة دواء ويقول للمرأة في ذوق بالغ: خذي يا هانم.. هذه حبة مهدئة يأخذها المسافرون الراغبون في النوم.. ستجعلك تذهبين في نوم مريح ولن يزعجك صوتنا بعد ذلك.لكن المرأة ردت بحدة: لا أريد حبوب زفت.. لو كنت أريد النوم بحبوب لأخذت من تلقاء نفسي، لكني أريد نوماً طبيعياً.قال الطبيب: هناك سدادات للأذن يمكن وضعها لمن أراد ان يعزل نفسه عن الأصوات المحيطة به.ردت في غضب: أوووووووووووووه. قلت للمرأة: يا ست الكل.. لو كان صوتنا يزعجك منذ البداية فلماذا صبرتِ لست ساعات دون ان تنبهينا لنخفض صوتنا؟.قالت: ظننتكم ستحسّون على دمكم فتصمتون وتنامون.
كان واضحاً أنها مجهدة عصبياً ولا تجيد التفاهم مع الناس، ومع هذا وجدت غضبي يغلب اشفاقي على هذه المرأة الحادة فقلت لها: ألا تدركين أنك في مكان عام ولست في غرفة نومك الخاصة؟ ألا تفهمين ان الطائرة هي وسيلة مواصلات يحق للناس فيها ان يجلسوا ويتحدثوا الى بعضهم البعض؟.رفعت رأسها ورمقتني بنظرة ثم قالت: أنا لن أرد عليك! ثم شدت الغطاء مرة أخرى واختفت تحت البطانية.
في الست ساعات التالية حتى الوصول للقاهرة استمر الحوار بيني وبين جاري –بعد خفض الصوت- عن حدود وحقوق الراكب على الطائرة.. و هل يحق لراكب اخراس راكب آخر لأنه ينزعج من صوته أو لا يستسيغ حديثه، وماذا لو كانت سحنة الراكب المقابل أو المجاور لا تعجبك؟.. هل تطلب ابعاده؟ وماذا لو كانت رائحته تضايقك.. و ماذا وماذا وماذا.. المهم أننا واصلنا ما انقطع من حديث بعد ان زودتنا المرأة بموضوعات جديدة نتناقش حولها، واكتشفتُ ان كل أنواع المواقف والسلوك الانساني تصلح مادة للحوار كما تصلح مادة للكتابة.. فشكراً للمرأة الغاضبة!
نقلاً عن جريدة "الوطن"