القصر الأبيض الجميل ذو الحديقة المنسقة الفناء المطل على شاطئ نيل الجيزة بجوار منزل الرئيس الراحل أنوار السادات، وهو ما يعرف- اليوم- بمتحف محمد محمود خليل وحرمه، وقد أقامه صاحبه الإقطاعى الكبير وزوجته الفرنسية هيلين ليكون تحفة معمارية، تحفل بمقتنيات فريدة من روائع اللوحات والتماثيل لعظماء الرسَّامين والمثالين الذين ملأوا الدنيا فتنة وبهجة منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى الثلاثينيات من القرن العشرين الميلادى.كل ركن من أركان القصر لم يخل من لوحات الجوبلان والسجاجيد الكلاسيكية والأوانى الخزفية والكريستال وتنويعات لا حصر لها، كان محمد محمود بك خليل من صفوة الإقطاعيين المثقفين لم يفرغ همه كأقرانه من أثرياء جيله فى الإغراق فى الطعام والشراب والمتع الحسية بل كان يعشق الجمال والفن الرفيع، ويبحث عن المتع الروحية.
وكان العالم فى فترة ما بين الحربين العالميتين يعيش مرحلة من الاستقرار، وكانت باريس مدينة النور تغمر أوروبا بأضوائها. هكذا بدأ محمد محمود خليل جمع مقتنياته فى تلك الفترة من قاعات العرض المنتشرة على ضفتى نهر السين؛ حتى أصبح لديه تلك المجموعة النادرة التى لا مثيل لها فى العالم.
وإذا كان البك وحرمه قد ابتاعا تلك الكنوز التى لا تقدر بثمن بالمئات من الجنيهات أو الآلاف؛ فهى تساوى الآن فى سوق الفن مئات الملايين من الدولارات، كما كان الجنيه المصرى فى تلك الأيام البعيدة يستبدل بجنيه من الذهب إلا أن أحدا فى مصر لم يصل إلى ما وصل إليه محمد محمود خليل وحرمه من رقة الإحساس والرفاهية الثقافية سوى قلة من الأمراء فى مقدمتهم البرنس يوسف كمال (1882 – 1969 ميلادية)، لكن لم يصل إلى ذلك المستوى الرفيع من الاقتناء للوحات النادرة فى سوق الفن الذى رفع أثمانها إلى أرقام مرتفعة السعر، فبين المجموعة لوحتان للرسام الهولندى فان جوخ (1853 – 1890ميلادية) الذى انتحر فقرا، الأولى بعنوان (أزهار الخشخاش)، والثانية بعنوان (إيقاع)، والمعروف أن لوحتين له بيعتا فى اليابان منذ من قبل، إحداها بـ 55 مليون دولار أمريكى، والثانية بـ 85 مليونا.
الناقد والمؤرخ محمد صدقى الجباخنجى كتب عن المجموعة النادرة الفنية التى امتلكها خليل وأوصى بها لزوجته هيلين بعد وفاته، وتركتها بدورها للدولة المصرية؛ لتكون من معالم التراث الفنى على الساحة العالمية.
كان الجباخنجى أستاذًا للتاريخ الفنى بمدرسة الفنون الجميلة العليا استأذنه أن يكتب كتابًا وثائقيًّا عن مقتنياته النادرة- وكان يتردد على قصره وقتما شاء بصحبة تلاميذه من طلبة الفنون الجميلة.
وصفه بأنه كامل الصفات، رقيق الشعور، كريم النفس، يسخر من أقرانه الأثرياء والإقطاعيين لانغماسهم فى المتع الحسية.
فالفنون الجميلة لديه منار للعقل، ومبعث للاطمئنان، والمعيار لحضارات الشعوب، واحتفظ بأعز ما تفخر به فرنسا من أعمال فنانيها فى القرن التاسع عشر الميلادى، وكان محمد صدقى الجباخنجى (مايو 1910 - نوفمبر 1992 ميلادية) قد قضى ستة أشهر فى باريس سنة 1930 ميلادية، أعقبها بخمس سنوات لدراسة الفن فى إيطاليا، ولم يكن قد شاهد حتى هذا التاريخ قصرًا يرقى إلى هذا المستوى الثقافى والفنى والجمالى حتى ظن أن الموت لا يمكن أن يطرق بابه يومًا.
أما صاحب هذه الجنة فكان بمثابة الدينامو الذى ينشط الحركة الفنية فى مصر. كان رجل مال وأعمال، كلما كثر ماله، تعددت أعماله، وازدادت مطامعه، وأحس بالظمأ نحو الفن ليتخفف من أعباء الحياة. وكان يشجع الفنانين وأول من نظم المعارض الفنية الأجنبية من إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والهند باسم (جمعية الفنون الجميلة) التى كان يرأس إدارتها.
بعد رحيل حرم محمود خليل، شكلت لجنة من الدولة لجرد محتويات القصر – تضمنت التحف لوحات وتماثيل وأوانى من الخزف والبورسلين والصينى والبللور وأشغال المعادن النفيسة المتنوعة الأشكال والأحجام والطرز التاريخية، قدرت جميعها بمبلغ 112974 جنيها مصريا فقط!. بين المقتنيات لوحات زيتية ومائية وباستيل ورسوم بالأقلام والأحبار يبلغ مجموعها 304 لوحات أبدعها 143 مصورا بينها ثلاثون لتسعة مصورين مصريين يضمون محمد حسن يوسف كامل – طاهر العمرى – صاروخان – محمود سعيد – أما التماثيل البرونزية فتمثالان لمحمد حسن وسعيد الصدر.
وقد توقفت عملية الاقتناء أثناء الحرب العالمية التى صادرت كل نشاط ثقافى، وبدأ الحوار بين خليل والحكومة سنة 1943 لإهدائها كنوزه الفنية.
ولم يضع كتابه عن تلك الكنوز إلا بعد عام 1956 ميلادية، حيث قام بالاشتراك مع (رشارد موصيرى) فى جرد محتويات القصر قبل أن يسمح للأخير بمغادرة الأراضى المصرية إلى باريس، حيث استعار الملفات الخاصة بها متحف (أورساى) أكبر متاحف باريس عام 1994 ميلادية – وإن كان الحوار ما زال جاريا حول لوحة (أزهار الخشخاش) للرسام العالمى (فنسنت فان جوخ) التى أحجم متحف أورساى عن استعادتها، والتى سبق أن سرقت من المتحف المؤقت، ثم أعيدت بعد ثلاثة عشر شهرًا بحركة مسرحية، تحدثت عنها الصحف المصرية فى حينها.
وحين تسلمت الدولة القصر وكنوزه بعد رحيل السيدة هيلين خليل حولته وزارة الثقافة والإرشاد القومى إلى متحف، وتردد عليه الفنانون والمثقفون والباحثون عن الفنون الفرنسية. وفى عام 1972 ميلادية أفرغ من كنوزه، وتم إلحاقه بمنزل رئيس الجمهورية، ولم يبق به من المتحف سوى بعض النجف الكريستال والسجاجيد والجوبلان– وعقب الروائى الكبير الراحل ( توفيق الحكيم ) على هذا الحدث بعبارة مأثورة قال فيها: «جرت العادة أن تحول الثورات قصور الحكام إلى متاحف، لكننا فى مصر نحول المتاحف إلى قصور للحكام»، إلا أن الفنان التشكيلى فاروق حسنى وزير الثقافة الأسبق كان قد أصدر بعد ذلك قراره التاريخى لإعادة الحق إلى نصابه وإرجاع اللوحات والتماثيل والتحف إلى مكانها، وإجراء الإعدادات الضرورية الحضارية التى تجعل من القصر واحدا من أهم وأحدث المتاحف العالمية، وتم إنفاق ميزانية قدرت بأربعة عشر مليونا من الجنيهات، حيث قام بالتنفيذ المركز القومى للفنون التشكيلية بقيادة الفنان التشكيلى الدكتور أحمد نوار.
حتى أصبح القصر متحفا بما يتفق مع مفهوم مصطلح (متحف) كما توضحه النشرة الدولية الدورية التى تصدرها منظمة اليونسكو.
وهكذا قررت لجنة الإشراف على التطوير توفير الأمن الدقيق لمحتويات القصر الفريدة التى لا تظهر لها ولا تقدر بثمن ويستحيل تعويضها إذا فقدت أو سرقت لوحة منها فى زمن لا يستعصى فيه شىء على (ما فيها – الجريمة المنظمة) التى يدخل ضمن مخططها الأزرق نهب تراث وكنوز شعوب الشرق الأقصى والأوسط – كما قررت اللجنة إعادة الطابع الأصلى الذى كان يتسم به المبنى قبل إلحاقه بمنزل الرئيس وإقامة تمثال لصاحب القصر الذى يعتبر قدوة ومثلًا يحتذى للصفوة من الأثرياء المثقفين الذين يسهمون فى إعلاء مكانة بلادهم وشعوبهم بين الأمم.
نقلا عن المصري اليوم القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع