بقلم - نديم الوزه
مهما كان موقفنا من الرياضة فهي إحدى الفنون الجسدية الموغلة في القدم. وغالباً ما يكون ازدهارها مرتبطاً بقوّة الأمم ورخائها، ممارسةً، وطقسية مشهدية، وذلك لخلوها من الأيديولوجيا الذهنية أو المنفعة المباشرة للعمل من جهة. ومن جهة لاحتوائها على قيم المنافسة، وتعزيز الانتماء الجماعي، والشعور بالتفوّق، والتعويض عن الرغبة بالانتصار في الحروب من خلال أنواع عنيفة كالملاكمة والمصارعة بأنواعها، أو سلمية كالجري والقفز والسباحة بأنواعها، وما يوفّره كلّ ذلك من تفريغ للانفعالات ولفرط الطاقة من أجل الاسترخاء والاستمتاع بالنتيجة. وجاءت ألعاب الكرات الجماعية لتدمج الرياضات العنيفة والسلمية في لعبة واحدة، فيكون القضاء على الخصم رمزياً، فلا يعتمد على توجيه اللكمات أو السهام أو الرصاص إلى جسده وإنما من خلال توجيه الكرة (كرمز حربي) لتستقرّ في أرض الخصم فلا يستطيع ردّها كما في الكرة الطائرة والتنس، أو لتدخل في السلة أو المرمى كما في كرة اليد والقدم والسلة.
حقّق انتشار الرخاء الإنساني الحديث اهتماماً واسعاً بالرياضة من قبل سكّان الأرض قاطبة بمختلف أعراقهم وطبقاتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولاسيما من خلال فائض الوقت، فحتى الأطفال الفقراء نسبياً، قد يكفيهم توفّر كرة - بغضّ النظر عن مواصفاتها التكوينية من المطاط أو القماش - لتطوير مهارتهم في لعبة كرة القدم وإن في أراضٍ وشوارع مغبّرة. وربما هذه السهولة اللوجستية في تأمين الأدوات لممارسة اللعبة قد تكون أحد أهمّ الأسباب الأساسية في شعبية كرة القدم عالمياً، إضافة إلى خواصها الفنية، على غير ما هو الحال في ألعاب متطلبة مالياً كالغولف والتنس والجمباز.
صحيح أنّه يتمّ التلاعب بقيم الرياضة من خلال الاستثمار المالي، إلى درجة المقامرة بالنتائج لدى الجمهور حالياً، لكن هذا لا يمنع من أنّ العمل على تطوير هذه القيم الرياضية بما ينسجم والرؤى الإنسانية للتقارب بين الشعوب، ونشر معاني وسلوكيات السلام، والتسامح... يأخذ الحيّز الأوسع من تفكير القيمين عليها في المنظمات الدولية. لولا أنّ هناك قيماً جمالية لا تقلّ أهمية حتى عن تلك التي يمكن رصدها في الفنون البصرية - والرياضة من حيث المشاهدة هي فنّ بصري - استوقفتني أخيراً، وتتعلّق بهارمونية حركة التشكيل الجماعي والإبداع الذاتي لتنقلات الكرة.
وإذا كانت الألعاب الجماعية الكروية تحتاج إلى هارمونية الفريق وانسجامه بين خطوط العرض المؤلف من الجناحين والقلب، وخطوط الطول المؤلف من الدفاع والوسط والهجوم، إلا أنها تحتاج، كذلك، إلى عبقريات فردية تتجلّى أثناء المباراة إن كان في التمرير أو في التهديف. وطالما أنّ مقالي، هنا، جاء نتيجة لمشاهدتي بعض مباريات الدور الأول من كأس العالم لكرة القدم المقامة في روسيا، فيمكنني أن آخذ عيّنات واقعية على ما أذهب إليه.
فمثلاً، لاحظت فعّالية عبقرية كريستيانو رونالدو وجدواها من خلال تسجيله ثلاثة أهداف لتتعادل البرتغال مع فريق قويّ كإسبانيا. ولاحظت كيف كان تأثير انطفاء عبقرية ليونيل ميسي على فشل منتخب الأرجنتين في الفوز على فريق صاعد كإيسلاندا، والاكتفاء بالتعادل معه. وكان من شبه المؤكّد فوز مصر على الأورغواي لولا غياب عبقرية محمد صلاح عن الفريق، فتفوز الأورغواي في آخر دقيقة. ولم يكن يحتاج المغرب سوى للاعب العبقري ليفوز نظراً للهارمونية الجيدة التي يتمتع بها فريقه، وربما عدم توافر هذا اللاعب هو ما جعل إيران تفوز من خلال خطأ مدافع مغربي سجّل في مرمى فريقه في الوقت الضائع. وطبعاً، مثلما تنطبق هذه الملاحظات على الفرق المنافسة - وإنما اعتمدت على اللاعبين الهدّافين الأكثر شهرة - فمن المؤكّد، أنها ستختلف من مباراة إلى أخرى، ووفق ظروف كلّ لاعب وأدائه.
بهذا المعنى هناك هارمونية أو نظام عام يضعه المدرب لتموضع اللاعبين وحركتهم داخل الملعب وينبغي احترامه من قبل جميع أفراد الفريق. ولكن ينبغي أن يكون هذا النظام عبقرياً ليستطيع أن يوفّر حركة حرة لإبداعات لاعبيه الذاتية ليحقّق الفوز ويمتع الجمهور فنياً في الوقت نفسه. وربما من نافل القول إنّه كلما كانت مهارات اللاعبين متقاربة كلما استطاعت عبقرياتهم الفردية الظهور. وما أقصده بهذه العبقرية، هو مقدرة الجسد على الحركة الذكية تلقائياً، وفي شكل فوري، في المناورة والتمرير والتسديد، وذلك بما يمتلكه من مهارات ذاتية ومقدرة على التحكم بالكرة بمختلف أعضائه. وسيكون ذلك أكثر جمالاً وثباتاً لو اعتمد هذا الجسد على فهم ذهني للخطط الموضوعة، ليتمكّن من المبادرة المباشرة على ابتكار الحلول في حال تعثر أيّ من هذه الخطط أو تنفيذها الجزئي، ولا سيما في نهاياتها أمام مرمى الخصم.
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع