بقلم - محمد سيد رصاص
الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما قال في خطاب أمام البرلمان الأوسترالي في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 الكلمات التالية: «إن المنطقة الآسيوية من المحيط الهادئ هي ذات الأولوية العليا في اهتمامات الولايات المتحدة الأميركية»، وفي إشارة منه إلى أهمية آسيا، وغروب القوة الاقتصادية الأوروبية، أضاف بأن «آسيا هي التي ستحدد في شكل رئيسي إن كان القرن الحادي والعشرون قرناً للصراع أم للتعاون». في 4 شباط (فبراير) 2016 وقّع أوباما على اتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادىء– الباسيفيك/ TPP» التي شملت معظم دول شاطئي الباسيفيك الأميركي الشمالي والجنوبي مع الآسيوي وأوستراليا ونيوزيلندا. كان الهدف تطويق الصين بشراكة اقتصادية أميركية مع محيطها. قبل أشهر كان أوباما وقّع مع إيران اتفاقية فيينا في 14 تموز (يوليو) 2015 حول ملفها النووي، مع غض البصر عن تمدّدها الإقليمي وبرنامجها الصاروخي، وبعد قليل من ذلك الاتفاق أعطى الضوء الأخضر للدخول العسكري الروسي إلى سورية في 30 أيلول (سبتمبر) 2015 الذي أعقبه توافق أميركي– روسي على التسوية السورية من خلال القرار 2254 (18 كانون الأول/ ديسمبر2015).
لم تكن الانعطافات الأميركية تجاه طهران وموسكو بعيدة من الاتجاه الانسحابي الأميركي من الشرق الأوسط باتجاه التركيز على الشرق الأقصى، بل كانت نتيجة له، وهنا إذا كانت الخيبة الأميركية في العراق دافعاً أولياً لهذا الاتجاه الانسحابي، إلا أن الموضوع الصيني كان هو الدافع العميق له. لم يكن أوباما في هذا بعيداً من اتجاه إبعاد الإيرانيين والروس عن الصين من خلال مكافآت أميركية في الشرق الأوسط، وإن ساهم هذا في إغضاب حلفاء واشنطن التقليديين في المنطقة.
بعد ثلاثة أيام من دخوله البيت الأبيض أعلن دونالد ترامب في 23 كانون الثاني (يناير) 2017 الانسحاب الأميركي من اتفاقية «الشراكة عبر الباسيفيك». لا يمكن فصل هذا الإجراء الافتتاحي في سياسة الرئيس الأميركي الجديد عن أن أول زيارة خارجية له كانت للرياض في 20- 21 أيار (مايو) 2017، المستاءة من ما جرى في فيينا 14 تموز 2015، تلك الزيارة التي صاحبتها قمة أميركية مع خمس وخمسين دولة عربية وإسلامية تمتد من إندونيسيا إلى المغرب، أعقبها «إعلان الرياض» الذي كان بمثابة إعلان نوايا عن الاتجاه نحو تأسيس «تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي» الذي يشبه كثيراً ما جرى عام 1949 حين تم تأسيس «حلف الأطلسي- الناتو» في القارة الأوروبية بزعامة أميركية. كان واضحاً من زيارة الرياض أن ترامب يضع إيران في أولوية اهتماماته في انقلاب على سياسة سلفه. كان ملفتاً أن تتجه واشنطن إلى سياسة الافتراق عن موسكو في الموضوع السوري منذ خطاب 18 كانون الثاني (يناير) 2018 الذي ألقاه وزير الخارجية الأميركي تيلرسون، وهو ما أكدته الولايات المتحدة من خلال الغارات الثلاثية على الأرض السورية في 14 نيسان والتي كانت محاولة لإرسال رسائل إلى موسكو بأن هناك انخراطية أميركية في الملف السوري بعيداً من الانفرادية الروسية التي وافق عليها أوباما. لم يكن إعلان ترامب الانسحاب من اتفاق فيينا مع إيران في 8 أيار خارج هذا السياق بل ضمنه. في المقابل فإن قمة 12 حزيران لترامب مع الزعيم الكوري الشمالي، والتي كانت ثمرة تعاون صيني- أميركي، لا يمكن عزلها عن اتجاه أميركي لإعادة التركيز على الشرق الأوسط واتجاه تسكيني- تبريدي للشرق الأقصى، بخلاف سياسة أوباما، نحو وضع إيران في «الأولوية العليا» أميركياً مكان الصين.
هنا، لا يمكن عزل السياسة الافتراقية الأميركية تجاه الموضوع السوري عن الهم الإيراني عند واشنطن، بل يبدو أن هدف واشنطن من ذلك هو الضغط على موسكو لكي تقف ضد طهران، وعلى الأرجح أن الوجود الأميركي في شرق الفرات السوري ليس هدفه فقط كسر الانفرادية الروسية في حل الأزمة السورية، وهو ما توحيه «ورقة مجموعة الخمسة» قبل أيام قليلة من مؤتمر سوتشي وورقته (30 كانون الثاني 2018)، وليس أيضاً فقط ضغط واشنطن على إيران وتركيا عبر استخدام الأكراد السوريين، بل كذلك وبالأساس توجيه رسائل لموسكو بأن واشنطن ستعرقل حل الأزمة السورية من خلال وجودها في تلك المنطقة السورية الحيوية إن لم تتعاون موسكو معها في تحجيم إيران في المنطقة عبر البوابة السورية، في وقت تبدو موسكو ولأسباب عدة هي الأكثر استعجالاً على حل الأزمة السورية، وفي شكل أصبحت فيه واشنطن قادرة على القول إن «الحل السوري» ليس ممكناً كما تريده موسكو من بوابة «ثلاثي سوتشي: روسيا وإيران وتركية» بل عبر توافق روسي- أميركي ثمنه عند الأميركيين هو إيران. على الأرجح أن هذا الكباش الأميركي- الروسي في سورية، والذي موضوعه طهران، سيطيل الأزمة السورية إلى أمد غير منظور، وليس بعيداً من هذا أن دي ميستورا الذي التقى ثلاثي سوتشي من أجل «اللجنة الدستورية السورية» في 18 حزيران قد اختار 25 حزيران للاجتماع للغرض نفسه مع «مجموعة الخمسة: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والسعودية والأردن»، وبالتأكيد فإن كل أعمال «اللجنة الدستورية»، إن أنجزت، ستبقى حبراً على ورق كما كان «بيان جنيف» في 30 حزيران 2012، حتى جاء اتفاق كيري- لافروف في موسكو (7 أيار 2013) ليكون وقوداً لمحركات ذلك البيان. في هذا الصدد ليست سورية هي ميدان العودة الأميركية الوحيد للشرق الأوسط، بل هناك العراق واليمن أيضاً. في البلدان الثلاثة هناك هم أميركي وحيد اسمه تحجيم إيران.
كخلاصة مكثفة: كان باراك أوباما استثناءً أميركياً منذ بدء انخراط واشنطن بالشرق الأوسط عبر خلافة لندن في إيران من خلال الانقلاب المدعوم أميركياً على حكومة محمد مصدق في آب (أغسطس) 1953. تعزز هذا الانخراط من خلال «مشروع أيزنهاور» عام 1957 لملء الفراغ البريطاني- الفرنسي في المنطقة، ثم عبر حرب 1991 وغزو واحتلال العراق عام 2003. دونالد ترامب هو استمرار لهذه الانخراطية الأميركية في المنطقة. يبدو أن دوائر صنع القرار الأميركي تؤمن بقول الجنرال ديغول إن الشرق الأوسط هو «قلب العالم».
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع