بقلم - محمد رءوف حامد
عند التنقيب عن الرؤى والمشكلات بخصوص أوضاع العلم والتكنولوجيا فى مصر، على مدى العقود الخمسة الماضية، يمكن ملاحظة ما يلى:
1ــ أن جميع التناولات «محلك سر» حيث تعيد نفسها برغم الزمن.
2ــ أنها (أى التناولات) لم تحظ بتعامل إيجابى منظومى بهدف استيعابها وتطبيقها.
3ــ أن ما طرأ عبر الزمن على المنظومة الوطنية للعلم والتكنولوجيا كان فى الشكل، ولم يكن فى السياسات والمهام.
وهكذا التدهور فى المنظومة الوطنية للعلم والتكنولوجيا «مزمن» بحيث بات الخروج من شرنقته مرهونا برصد وفهم الإشكاليات الحاكمة له، ثم بالتفاعل المنهجى معها. وفى تقديرنا تتصف وضعية هذه المنظومة بإشكاليات أربعة:
أولا: التدنى الهيكلى:
من علامات هذا التدنى استمرار مراوحة أوضاع هذه المنظومة بين قيادة بواسطة وزارة للتعليم العالى والبحث العلمى تارة، وأخرى بواسطة وزارة منفصلة للبحث العلمى تارة أخرى.
وإذا كان ذلك يُظهر وزارة البحث العلمى كوزارة تكميلية (أو شكل وإكسسوار)، فإن هذا المنحى يتجلى أيضا فى أشكال أخرى، مثل نهج اختيار من يقودها.
من الطبيعى أن تعكس سياقات هذا التدنى قدر انكماش الدور القومى للعلم والتكنولوجيا فى السياسات العليا للدولة. على النقيض من ذلك، كان الزعيم الهندى نهرو مدركا تماما لدور البحث العلمى فى تقدم الدولة، إلى حد أن احتفظ لنفسه بمنصب وزير البحث العلمى، إضافة إلى رئاسة الوزارة.
ثانيا: تدنى الدور التنموى:
يأتى ذلك كنتيجة للتدنى الهيكلى والذى يجعل الأوضاع الوطنية للعلم والتكنولوجيا منقطعة الصلة بالتنمية. وإذا كانت جميع الأسئلة والمشكلات فى الدول المتقدمة تخضع للتناولات المنهجية المعتمدة على البحث العلمى، فإن البلدان النامية، ومن بينها مصر، أكثر احتياجا إلى ذلك.
يُذكر هنا أنه أثناء التسعينيات صدر عن الوزير المختص تصريحا بأنه على اتصال دائم بالدكتور زويل للاستعانة بآرائه بخصوص أعمال البحث العلمى فى مصر. لم يكن فى الاعتبار أن المسألة تعتمد على سياسات تُصاغ وتطبق بعناية، وليس على «التستر» الإعلامى وراء علاقة بعالم كبير.
الوضع إذن، وكما قُدر لى الإشارة إليه عند الحوار مع قيادة سياسية عليا عام 1999، أن البحث العلمى فى وادٍ والتنمية فى وادٍ آخر، وأن فى ذلك خطر على مستقبل البلاد.
ثالثا: سيادة المرجعية الأجنبية:
كامتداد لما سبق ذكره، يتضاءل (أو يغيب) الطلب الوطنى على أنشطة البحث العلمى والتطوير التكنولوجى، مما يولّد نوعا ثالثا من التدنيات، وهو تدهور المكون العلمى التكنولوجى الذاتى الوطنى (بمكوناته المؤسسية والبشرية).
ثلاثية التدنيات هذه تجعل المرجعية الرئيسية الأسهل فى التعامل مع المشكلات ومتطلبات التطوير هى «المرجعية الأجنبية»، سواء من حيث الرؤى والأفكار أو النظم والتقنيات أو الأشخاص والكيانات.
فى ظل هذه المرجعية تتزايد عجلة الهبوط فى التدنيات الثلاثة، وتصبح الغلبة فى تسيير الأمور لمعايير وإشكاليات صنعها آخرون، وليست بالضرورة هى الأصلح لنا.
من أمثلة هذه المعايير (والإشكاليات) قائمة أحسن الجامعات فى العالم، وتفضيل النشر فى الدوريات الأشهر دوليا، والاندفاع تجاه المشروعات البحثية المشتركة مع الأجانب.
برغم أن عديدا من كبار علماء مصر يحبذون الأخذ بهذه المعايير، إلا أن المتطلبات الأصيلة للتقدم تتطلب غير ذلك. فى هذا الخصوص نشير وبإيجاز إلى ما يلى:
ــ أن الأولوية الموضوعية تكمن فى أن تلبى مؤسساتنا العلمية والتكنولوجية (من جامعات ومراكز بحوث ووحدات تطوير) المعايير الخاصة بدورها فى توليد المعرفة المرتبطة باحتياجاتنا (نحن)، وبتطوير أوضاعنا (نحن)، وإنجاز تنميتنا (نحن).
وهكذا، يُعد تشويها أن نغرق فى تلبية معايير مصنوعة تماما فى الخارج، وانطلاقا من ظروف أخرى.
هنا تأتى ضرورة إدراك أن الجامعات المتقدمة عالميا صارت كذلك لأنها لبت (أولا) احتياجات مجتمعاتها هى وليس لارتباطها بمعايير أجنبية عنها محددة سلفا.
ــ أن الاتجاه إلى النشر الدولى كتوجه أمثل يُحرم المجتمع العلمى الوطنى من الازدهار لدورياته (ومخرجاته) العلمية، ويضيف على عاتق الأفراد الباحثين ومؤسساتهم تكاليف مالية عالية. ذلك بينما، فى المقابل، المهمة الوطنية المفترض الاتجاه إليها تتمثل فى ترشيد وضبط ودعم منظومات ودوريات النشر المحلية وربطها بالبث المعلوماتى العالمى.
هذا، ويمكن الجزم أن الدوريات العلمية الدولية الكبرى قد نشأت بدايةً كدوريات محلية (ما لم تكن صادرة عن منظمات دولية).
ــ أما عن المشروعات البحثية بمشاركة الأجانب فمن المفترض ــ أولا ــ أن تتوصل المنظومة البحثية الوطنية إلى توافق معرفى (وليس روتينيا) لما يحتاج إلى تعاون أجنبى، وبعدها يأتى التنسيق (و/ أو التسويق) بشأن التعاون المصرى/ الأجنبى.
وبعد الاعتبارات السابق ذكرها لا تنفى الحاجة إلى مقاربات وتعاونات مصرية / أجنبية، الأمر الذى يحتاج إلى منظور منهجى يختص بالاحتياجات المحلية.
رابعا: التخلى عن مسئولية القاطرة:
إذا كانت سلبية انخفاض الطلب على أنشطة البحث والتطوير فى مصر تمثل «نتيجة» و«سببا» و«عَرَضا» فى آن واحد لسلسلة من التدنيات ولسيادة المرجعية الأجنبية، فقد جرى ذلك برغم نضالات متعددة على مدى حوالى نصف قرن من جانب خبراء وطنيين بارزين. هذه الحقيقة تشير
إلى إشكالية جديرة بالمجابهة، وتتمثل فى أن مسئولية السياقات الحاكمة للدولة (وتحديدا ماكينة صناعة السياسىات العليا) فى التخلى عن مكانة العلم والتكنولوجيا كقاطرة للتقدم الوطنى لا تقل عن مسئولية جماعات العلماء والخبراء، بل تزيد.
المداخل المستقبلية للتصحيح:
لا يمكن إذن التوصل إلى دور تنموى استنهاضى قومى لأنشطة البحث العلمى والتغيير التكنولوجى والتطوير بدون سلسلة تصحيحات يمكن إيجازها فيما يلى:
1ــ تصحيح مفاهيمى (وبنيوى) بخصوص مهام كل من وزارتى «التعليم العالى» و«البحث العلمى». ذلك أن وزارة التعليم العالى تختص مهامها بالتعليم الجامعى، قبل وبعد التخرج، بينما يمثل البحث العلمى فيها إحدى المهام.
وفى المقابل، تختص وزارة البحث العلمى بأنشطة البحث العلمى والتغيير التكنولوجى فى جميع كيانات وأنشطة الدولة (إنتاج وخدمات ومستقبليات...إلخ).
هذا ومن الطبيعى أن تكون هناك مساحات من الاهتمامات المشتركة بين الوزارتين، مما يعنى التنسيق والتآزر وليس هيمنة إحداهما على الأخرى.
2ــ تصحيح وظيفى (وهيكلى) فى منظومة البحث العلمى والتغيير التكنولوجى. يتطلب ذلك التمييز بين مهام كل من «وزارة البحث العلمى» و«أكاديمية البحث العلمى»، فالوزارة هى المايسترو المختص بتنمية ودعم وتشغيل المكونات العلمية والتكنولوجية والتطويرية فى جميع مجالات الأعمال على أرض مصر، الأمر الذى يتضمن تعظيما للتكاملية والتناغمية بين (وعبر) هذه المكونات.
أما عن أكاديمية البحث العلمى فمسئوليتها تتمركز فى تطوير وتعميق القدرات الوطنية فى مجالات العلم والتكنولوجيا، بحيث تلحق بالمستويات العالمية، بل وأن تصل إلى مستوى التنافسية والسبق فى بعض المجالات.
التمييز بين مهام الوزارة والأكاديمية يؤدى إلى تعظيم لقدراتهما والتكامل بينهما، وبين كل منهما والمهام والخطط القومية فى جميع المجالات.
3ــ ضرورة استناد عمليات صنع السياسات العامة فى الدولة على تناولات منهجية علمية تكنولوجية.
4ــ تعيين وكلاء وزارة لشؤن العلم والتكنولوجيا فى جميع الوزارات، والذين من خلالهم يمكن الدفع والتنسيق والمتابعة لجميع المكونات والمهام والأنشطة الخاصة بالعلم والتكنولوجيا فى جميع مجالات الحياة فى مصر. من خلال شبكة هؤلاء الوكلاء تصبح وزارة البحث العلمى أكثر قدرة على الاضطلاع بمهامها القومية.
5ــ تنشيط الإدراك القومى للتكاملية بين الأنشطة البحثية فى الإنسانيات من جانب وفى العلوم من جانب آخر، وذلك فى إطار التفاعل مع أية إشكاليات تتعلق بالتنمية والمستقبليات.
وختاما، ليس من المبالغة الاقتراح بأن تكون وزارة البحث العلمى وزارة سيادية الطابع، الأمر الذى تحتاجه البلاد من منظور ما يحمل «الزمن» من تحديات للأمن القومى.
المصدر :الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع