بقلم - وجيه وهبة
المتحف المصرى الكبير، الذى يشيد الآن بالجيزة، هو واحد من أكبر وأهم المشروعات الحضارية فى القرن الواحد والعشرين، مبنى ومعنى. وللمتاحف العالمية أدوار متعددة فى حياة الشعوب، فهى ليست مجرد مبانٍ تعرض فيها الآثار والأعمال الفنية، كما أنها ليست مجرد مصدر لزيادة الإيرادات المباشرة للدولة. المتاحف هى بؤر تنمية حضارية مستدامة، وليست مجرد “فترينة عرض تحف”. ولذا فإن التفكير فى افتتاح المتحف المصرى الكبير افتتاحاً جزئياً مع نهاية العام الحالى، هو نوع من الهزل فى مقام الجد. ولقد حاولت إيجاد كلمة توجز وتصف ما يحدث، بأكثر الكلمات ترفقاً، من كلمة “الهزل”، ولكننى عجزت. وإذا ما استمرأ المسؤولون فى صلفهم وعنادهم، فلن يسفر الأمر إلا عن مهرجان لافتتاح معرض فى مبنى لم يكتمل بناؤه ونسميه “المتحف المصرى الكبير”. كما لو أننا نحتفل بكيان مبتسر لم يكتمل نموه، لمجرد “لم“ النقطة أو بعض الهدايا الهزيلة.
■ لقد كتب وطالب الكثيرون من أهل الاختصاص، والمهتمون بالشأن العام، بألا يتم افتتاح المتحف افتتاحاً جزئياً، فنجهض بذلك فرصة مشاهدة العالم للمتحف فى أبهى وأكمل صورة، عبر احتفال عالمى لائق، وما يترتب عليه من نتائج على كل الأصعدة- ونتصوره احتفالاً يضارع بضيوفه ومظاهره، الاحتفال بافتتاح قناة السويس عام ١٨٦٩ـ طالب بذلك وألح “فاروق حسنى” و”زاهى حواس”، وغيرهما العديد من المعنيين.. ولكن يبدو أنه لا حياة ولا حياء لمن تنادى.
■ ترى من وراء قرار “الافتتاح الجزئى” العنيد الأهوج؟ ومن دعمه ولماذا دعمه؟ لا نعرف، وربما لن نعرف.. فالقرار مشاع، وبالطبع هناك تنسيق بين وزارات وجهات عدة. ولكننا لا نعرف من هو المسؤول الحقيقى ـ وليس “المسؤول الواجهة”ـ ويتساءل البعض فى ريبة عن المبررات وراء اتخاذ هذا القرار …المبررات الحقيقية وليست المبررات الواهية التى ظهرت فى الصحف. لقد قرأنا تصريحات لمسئولين، تدعى أن الافتتاح الجزئى للمتحف سوف يساعد على توفير التمويل اللازم لاستكمال الأعمال فى باقى أجزاء المتحف!!. أى تفكير هزيل هذا!! وأى حجة واهية!! حجة تخفى أكثر مما تبين، أو هى ـ إذا أحسنا النواياـ رؤية قصيرة النظر، تلهث وراء مكاسب ضئيلة عاجلة، وتهدر مكاسب هائلة، عاجلة وآجلة. إنه متحف القرن يا سادة.. ظاهرة بصرية ومفهوم متكامل قبل كل شىء، وليس بمصنع نفتتح جزئياً أحد خطوط إنتاجه، أو مدينة سكنية نفتتح أحد أحيائها.
■ وعن التفكير التمويلى، غير التقليدى، التفكير خارج الصندوق ـ وليس خارج العقل ـ أذكر أنه فى الثمانينيات من القرن الماضى، فى إيطاليا، حين نادى الخبراء بضرورة ترميم أعمال الفنان ”مايكل أنجلو” الخالدة، المرسومة بسقف وجدران “كنيسة سستين” بالفاتيكان، ومع الاحتياج لتقنيات فائقة وتكاليف باهظة، قامت مؤسسة تليفزيونية يابانية بتحمل تكاليف المشروع والقيام بأعمال الترميم ـ التى استغرقت سنوات عديدة ـ وذلك نظير احتكار تلك المؤسسة لحق التصوير الفوتوغرافى والفيديو، لمدة ثلاث سنوات بعد انتهاء كل مرحلة من مراحل الترميم، وبالطبع ربح الجميع من هذا الحل المبتكر.
■ العام ٢٠٢٢- أى بعد أربعة أعوام ـ هو العام الذى يفترض أن تستكمل فيه جميع الأعمال فى مشروع “المتحف العملاق“، والذى تبلغ مساحته ١١٧ فداناً، أى ما يقرب من سبعة أضعاف مساحة متحف “اللوفر”. ويذكرنا “د. منير نعمة الله” خبير التنمية البيئية والسياحية: “أن العام ٢٠٢٢ تحل فيه ذكرى مناسبات عالمية كبرى، تتعلق بالآثار المصرية. ففيه تحل ذكرى مرور مائتى عام على نجاح الفرنسى “شامبليون“ فى كشف رموز اللغة المصرية القديمة. وفيه أيضاً ذكرى مرور مائة عام على اكتشاف الإنجليزى ”هوارد كارتر” لمقبرة “توت عنخ آمون”. وأيضاً ذكرى مرور مائة وعشرين عاماً على افتتاح المتحف المصرى بموقعه الجديد بميدان التحرير. فما أروعها من مناسبات، تحتويها وتتوجها جميعاً مناسبة افتتاح المتحف المصرى الكبير”.
■ هناك شكوك لدى البعض من أن يكون وراء قرار “الافتتاح المنقوص“ للمتحف بعض من المسؤولين، يريدون أن يفتتح المتحف فى عهدهم، قبل أن تدور عليهم الدوائر، أو يريدون ـ تزلفاًـ أن يفتتح المتحف فى عهد الرئيس “السيسى”، قبل انتهاء فترة رئاسته فى يونيو ٢٠٢٢، وقبل انتهاء كافة أعمال المتحف بالكامل فى نوفمبر ٢٠٢٢. فإن كان الأمر كذلك، فإنه يمكن معالجته بسهولة، إذ لا يستلزم سوى أربع كلمات من الرئيس، هى: “٤ سنين كتير يا كامل”. وحينها تحل كل المشكلات وتدور عجلة العمل بأقصى سرعة، ويتوفر التمويل ويفتتح المتحف بكامل أجزائه دفعة واحدة، خلال النصف الأول من العام ٢٠٢٢، أو حتى قبل ذلك، المهم أن يكون احتفالاً بافتتاح كلى، وليس جزئيا، احتفالاً يليق بمصر ويشرف رئيسها. وبالطبع سوف يكون احتفالاً تاريخياً، يحضره ملوك ورؤساء من كافة أنحاء العالم. ولأن من المتوقع والمأمول والمفترض أن تكون الأحوال فى مصرـ بصفة عامةـ فى تقدم، وأفضل مما هى عليه الآن، فإنه من الأفضل أن نستقبل ضيوف مصر غداً وليس اليوم، فهل من قرار تستقيم به الأمور؟.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع