حبس معظم المصريين أنفاسهم، مساء الثلاثاء، أثناء مباراة المنتخب الوطنى مع منتخب روسيا، الشوارع خلت من المارة، النوادى والمقاهى اكتظت بالرواد، السيارات تنطلق مسرعة قبل صفارة البداية، وكأننا فى شهر رمضان، لحظات قبل انطلاق مدفع الإفطار، بنى المصريون آمالا واسعة، على هذه المباراة.
طوال شهر رمضان، قامت إحدى الشركات بحملة دعائية وإعلانية ضخمة، فى كل القنوات تقريبا، وبدلا من أن يقود الإعلام الإعلان، انقلب الأمر وصار الإعلان هو الذى يقود، والمعروف أن هدف الإعلان ليس تكوين اقتناع، بل خلق انطباع، والذى حدث أن الإعلان نجح مع كورس الإعلام فى خلق انطباع لدى الكثيرين بأننا سنحقق الفوز فى مباراة روسيا.
وكانت المؤشرات تدعو إلى التريث فى خلق ذلك الانطباع، المنتخب الوطنى لم يحقق الفوز، فى أى مباراة من المباريات الودية التى خاضها قبل بدء البطولة، فإذا كان مستوانا على هذا النحو فى المباريات الودية فكيف بنا فى المباريات الفعلية؟. وكانت الجماهير المصرية تراهن على وجود الفذ محمد صلاح، لكننا نعرف جميعا أنه بعد إصابته الأخيرة، والتى لم يتعاف منها تماما، ليس فى أفضل أحواله، ناهيك عن أن لعبة كرة القدم، تبرز المهارات والعبقرية الفردية، لكنها فى النهاية لعبة الفريق، ولا تغنى المهارة الفردية عن الفريق القومى، يضاف إلى ذلك، أننا كنا أمام خصم قوى وعنيد، يريد أن ينتزع الفوز على أرضه، ومباراة هذا الفريق مع المنتخب السعودى، يوم الافتتاح، كانت مؤشرا على قوته.
أخطر ما جرته الحملة الإعلانية أنه فى الوقت الذى تسعى فيه الحكومة منذ نوفمبر 2015 لاستعادة السياحة الروسية، انتهينا إلى أن صارت مصر تصدر السياحة إلى روسيا، أى أننا فعلنا العكس، وسافر حوالى 35 ألف مصرى ومصرية إلى روسيا لقضاء أسبوع بها، لتشجيع المنتخب والعودة بالفوز. وهكذا فإننا لم نخسر المباراة فقط، ولكن خسرنا فى قطاع السياحة، وأتمنى لو أن هناك دراسة تحدد لنا بالضبط، التكلفة الاقتصادية لهذه الأعداد الضخمة التى سافرت وأنفقت، مما جعلنا فى التحليل النهائى ندعم الاقتصاد الروسى المنهك من العقوبات الأمريكية والأوروبية، بينما نتضرر كثيرا ونتألم لو طلب منا دعم الاقتصاد المصرى، ولله فى الإعلان والإعلام شؤون!!.
حين تتم عملية «النفخ الإعلانى والإعلامى» فلابد أن نحدد بدقة الهدف النهائى ونحسب مخاطر عدم الوصول إليه، والخطر كل الخطر أن يتم بناء حلم كبير لدى الجماهير، دون أن نحدد لهم نسبة الوصول إليه وتحقيقه، وقد لدغنا من قبل كثيرا، حدث ذلك فى مباراة المنتخب المصرى مع منتخب الجزائر فى مدينة الخرطوم، وكانت النتيجة أن ساءت علاقتنا بالجزائر الشقيق وبالسودان الشقيق الأقرب إلينا.
ولا أنكر أننى شعرت بانقباض تام، حين وجدت أجواء الشحن التى جرت لهذه البطولة، تشبه إلى حد كبير، أجواء مباراتنا مع الجزائر، طائرات خاصة تعبأ بشخصيات عامة، اقتحام لأماكن أعضاء الفريق والتصوير معهم، كان يمكن تأجيل التصوير إلى ما بعد المباراة.. شعرت أن هؤلاء أو بعضهم لم يذهبوا لمساندة المنتخب، لكن للبحث عن صورة ليكونوا فى المشهد، ويحجزوا مقدما موقعاً فى «تورتة الفوز» كما حدث من قبل.
هذا النمط من التفكير والسلوك ليس جديداً علينا، ولا يتعلق بكرة القدم فقط.
قبل ذلك فى 1967 بنينا حلماً ضخماً لدى الجماهير العربية أننا سندخل تل أبيب، وكانت الصدمة، أننا لسنا أقوى قوة ضاربة فى الشرق الأوسط كما بشرنا البعض، وأننا فقدنا سيناء، وفقدنا الآلاف من جنودنا وضباطنا، فضلاً عن هيبتنا وصورتنا أمام أنفسنا، وأمام العالم كله.
رحم الله أحمد سعيد، الذى يحاول البعض أن يتلبس روحه، رغم أن الرجل عاش نادما ومقراً بالخطأ بعد ما جرى فى يونيو.
لكن فى 1973 كان حلمنا أن نعبر القناة ونقتحم خط بارليف ونرفع العلم المصرى عليه، وكنا نعرف أننا يمكن أن نقدم 80 ألف شهيد على الأقل، لتحقيق ذلك الحلم، فلما تحقق دون هذا الرقم من الشهداء، بكثير جدا، سعدنا وشعرنا بالفخر، ومازلنا فخورين إلى اليوم.
ماذا لو لم تمتلك الجماهير أعصابها بعد هدف محمد صلاح، هل أدرك مخططو الحملة الدعائية السيئة، ومن أدارها بمنطق «شوبش يا حبايب» ما كان يمكن أن يحدث.. ولماذا التعامل بمنطق وعقلية مايو ويونيو 1967، فى زمن مختلف تماماً وسياق مختلف..؟! لماذا لا نتعلم من التجارب، ويتصرف بعضنا بمنطق «الهبلة التى أمسكت بالطبلة»، لماذا يتصرف الإعلان والإعلام على هذا النحو..؟ وإلى متى يقود الإعلان الإعلام..؟! ولماذا هذا الخلط والتداخل البين بين الإعلان والإعلام، وهو تداخل غير مسبوق، وما هو رأى نقابة الصحفيين والهيئة والوطنية للصحافة، فى كل هذا التداخل، بل الامتزاج والتماهى بين الإعلان والإعلام.؟!!.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع