بقلم - حسين معلوم
«مصر هبة النيل». بهذه الكلمات الثلاث التي قالها هيرودوت، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، لخّص العالم اليوناني الكثير من الحقائق التي تأكدت تاريخياً، بناءً على العلاقة التي تجمع بين مصر والنيل جغرافياً، بل جغراسياً أيضاً. فمصر من دون النيل صحراء قاحلة مترامية الأطراف. أهم هذه الحقائق ثلاث:
الأولى، النيل مصدر رئيس للمياه لا غنى عنه، إذ يشكل نحو 95 في المئة من مصادر المياه العذبة لمصر؛ ومن ثم، فإن أمن هذا البلد القومي يعتمد على هذا النهر من دون منازع، سواء للشرب أو للزراعة أو لغيرها، ناهيك عن الجزئية الخاصة بالمواصلات. وهو ما يعني أن اعتماد الإنسان المصري على نهر النيل، سيظل كما هو طالما استمر النهر المصدر الرئيس للمياه.
الحقيقة الثانية، أنه في ظل التوسع البشري والعمراني، وكذلك الاقتصادي، ومع ثبات كمية المياه التي تصل إلى مصر سنوياً، فإن المتوافر منه حالياً، ويكفي بالكاد حاجة البلاد الآن، قد لا يكفي في المستقبل القريب. فمع ازدياد معدل النمو السكاني، وازدياد الرقعة الزراعية عن طريق استصلاح الأراضي الصحراوية، والتوسع في النشاط الصناعي، فإن مصر، بالقطع، ستواجه عجزاً محتملاً في السنوات المقبلة، في ظل احتمال تعرض متوسط فيضان النيل الحالي للنقصان، سواء لأسباب طبيعية أو بشرية. وهو ما يؤشر إلى أنه ما لم تُؤخذ هذه العوامل في الاعتبار، فإن مصر يمكن أن تواجه مأزقاً لا تُحسد عليه.
الحقيقة الثالثة، أن مصر بالنسبة إلى نهر النيل «دولة مصب» فقط، حيث تُشارك تسع دول أفريقية أخرى في حوض هذا النهر؛ وبالتالي، فإن القاهرة وحدها لا تتحكم في نهر النيل، ولا تستطيع ذلك من دون التعاون مع السودان، وجنوب السودان، وإثيوبيا، وكينيا، وأوغندا، وتنزانيا، والكونغو، ورواندا، وبوروندي. وهو ما يؤكد أن تشابكات المصادر المائية لنهر النيل، وتشعبها بين هذه الدول، لا يُتيح لأي منها اتخاذ سياسة مُعينة تجاه مياه النهر، في شكل منفرد. أضف إلى ما سبق، أن بعض التقديرات يُشير إلى أن نصيب إثيوبيا من المياه الوافدة إلى مصر، عبر نهر النيل (5.5 بليون متر مكعب) يصل إلى نحو 85 في المئة. صحيح أنه لا يُمكن إهمال النسبة المتبقية، خصوصاً أن مصر ستكون في حاجة إلى توفير كل قطرة ماء تستطيع أن تحصل عليها، من أجل الاستفادة منها في مواجهة حاجاتها المستقبلية؛ إلا أنه يبقى من الصحيح، أيضاً، أن النسبة الأولى، تُشكل ما يُمكن اعتباره العمود الفقري بالنسبة إلى مصر. ومن هنا، تأتي مشكلة «سد النهضة» الإثيوبي. فهذا السد، يقام على الرافد الأساسي لنهر النيل (النيل الأزرق)، وتمت زيادة سعته التخزينية من 14 بليون متر مكعب، إلى 74 بليون متر مكعب، بما يتجاوز مسألة الاكتفاء الذاتي من الطاقة، التي تُعلنها إثيوبيا، إلى التخطيط لتصدير الكهرباء، وخنق مصر مائياً، وتحجيمها كقوة إقليمية، بالتعاون، طبعاً، مع إسرائيل، وغيرها، خصوصاً أن هذا السد سوف يصاحبه إنشاء ثلاثة سدود أخرى، بسعة تخزينية قدرها 200 بليون متر مكعب.
من هنا، أيضاً، فإن امتلاء بحيرة السد الإثيوبي، سيكون على حساب التفريغ التام لبحيرة ناصر (بحيرة السد العالي). فضلاً عن أن إقامة السد في ظل انخفاض مُعامل أمانه، وفي منطقة ذات تاريخ زلزالي، يُمكن أن يتسبب في كارثة إنسانية في السودان ومصر؛ إضافة إلى الأضرار البيئية، ونقص كميات المياه الواردة إلى مصر، بعد انتهائه، بما لا يقل عن 12 بليون متر مكعب، وهي تكفي لبوار 2.5 مليون فدان، وتشريد زهاء خمسة ملايين مواطن، وتقليل القدرة على توليد الكهرباء، بنسبة تصل إلى 20 في المئة؛ ناهيك عن أنه في حال انهيار السد، أو في حال تَمَكُّن طمي النهر من ردمه (في أقل من 50 سنة)، فإن الكارثة ستكون أفدح على السودان ومصر أيضاً. ولا ندري لماذا تغيب هذه المعلومات عن شريك المصير المصري، الذي تغيّرت مواقفه نتيجة حسابات سياسية أقل ما يُقال في شأنها إنها ضيقة. في هذا السياق، تبدو أهمية التوقف أمام الحديث المتواتر عن المسار التفاوضي الذي يُعلق الكثيرون أهمية عليه. إذ، على رغم أهمية استمرار المفاوضات مع إثيوبيا، لكن نجاحها يتطلب عدم النظر إلى القضية باعتبارها مسألة فنية بحتة؛ بل، على العكس، يجب التعامل معها باعتبارها قضية «مصير».
بالتالي، فإن اعتماد البعض على مقولة أن إثيوبيا تؤكد، شفاهة، بأنه لن يتم المساس بحصة مصر من المياه، هو اعتماد على مقولة ساذجة، تماماً مثل المقولة التي أطلقها سيلفا كير، رئيس جمهورية جنوب السودان، قبل سنوات، من أنه: «لو أن هناك زجاجة مياه واحدة، سوف نقتسمها مع مصر». إذ، إن هذه المقولات التي تُطلق للاستهلاك الإعلامي، لا تصلح أن تكون قاعدة في إدارة العلاقات الدولية، خصوصاً في مسألة حيوية مثل مسألة المياه بالنسبة إلى مصر؛ والدليل، هنا، أن من «يتحكم» بمياه النيل «يتحكم» بمصر.
وبالتالي، ما لم يتم التعامل مع ملف سد النهضة على أساس مقولة هيرودوت «مصر هبة النيل»، ومن دون الاهتمام بالعوامل التي أقحمت مياه النيل في التنازع الاستراتيجي، وتدفع إلى إمكانية استخدامها مستقبلاً كـ «سلاح سياسي»، فربما تجد الإدارة المصرية نفسها مضطرة إلى خيار، لا تزال تتجنّبه حتى الآن، خصوصاً أن مثل هذا الخيار سيفرضه أحد أهم الحقوق الإنسانية... «حق الوجود».
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع