بقلم : د. لميس جابر
لماذا غضب الدكتور شوقى، وزير التربية والتعليم، من كلمة «تعريب التعليم» التى أطلقها البعض؟ ولماذا اعتبرها إهانة؟ بالعكس أنا أرى أنه تعبير جيد جداً عن الحالة المتردية التى وصلت لها «اللغة العربية»، اللغة «الأم» لدى تلاميذ المدارس والجامعات، بل والشباب فوق الأربعين، ومنهم أطباء ومهندسون ومحامون وصيادلة، بل وإعلاميون وصحفيون.. حتى شريط الأخبار فى بعض الفضائيات أصبح مليئاً بالأخطاء الإملائية. المسألة وصلت إلى حد الكارثة التى تهدد لغة الدولة الرسمية، وأصبحت الثقافة السائدة لدى الشعب وأولياء الأمور أن منتهى المراد من رب العباد أن يتعلم أبناؤهم اللغة الإنجليزية، فهى دليل العلام والتميز والباب الملكى لفرص العمل، وأصبح الشباب المتخرج فى مدارس اللغات والمدارس الدولية لا يستطيع تكوين جملة مفيدة باللغة العربية بدون كلمة إنجليزية، وتمادوا حتى أصبحت ظاهرة غريبة، فهم يفتخرون بأنهم «سورى» لا يستطيعون التحدث بالعربية بطلاقة!! وتمادوا فيها من باب المنظرة والاختلاف، وأصبح فى نفس الوقت خريجو المدارس الخاصة والتجريبية لا يجيدون لا اللغة العربية ولا الإنجليزية على حد سواء، والنتيجة المرعبة أنه بعد سنوات سنحصل على شباب متفاوت ومختلف فى مستوى التعليم واللغة لكن الجميع لا يجيد العربية، ولماذا بعد كل هذا الانحدار فى مستوى اللغة لا نقول إننا نحتاج بالفعل إلى تعريب التعليم الذى أصبح «سمك لبن تمر هندى»؟
لقد طغت الألفاظ الغريبة المستحدثة على لسان الشباب، وحتى الكبار، وهى مصطلحات غريبة جداً وغير مفهومة، ولكنها أصبحت منتشرة بشدة، وأصبح التحدث بالعربية مادة للسخرية على مواقع التواصل وحتى فى الدراما والإعلانات.
عندما تقدم أبى، رحمه الله، إلى امتحان البكالوريا فى العشرينات امتُحن فى اللغة العربية «تحريرى وشفهى»، وقال لى إن الممتحنين كانوا اثنين، واحد «أزهرى» معمم، والآخر خريج دار العلوم «مطربش»، وفكرة الامتحان الشفهى أن يُختبر الطالب فى نطق اللغة العربية الصحيح، لذلك أصبح هذا الجيل يجيد الأدب ويؤلف الشعر ويقتنى الكتب فيكتسب فى النهاية ثقافة موسوعية فى كل مجالات المعرفة.
أما أنا وجيلى ممن لحقنا بآخر قطار التعليم الجيد.. فدرسنا فى المرحلة الابتدائية كل المواد باللغة العربية، تعلمنا نكتب ونقرأ فى سن مبكرة.. أنا شخصياً قرأت الصحف فى الثانية الابتدائية لأن مُدرّسة فى المدرسة كانت تدعونا لإحضار أى أجزاء من الصحف وتدعونا لقراءتها، سواء كانت فى السياسة أو الاجتماع أو حتى الوفيات والإعلانات. كنا نطالَب عقب كل رحلة بكتابة موضوع «إنشاء» عن الرحلة، سواء كانت إلى الأهرامات أو القناطر الخيرية أو حديقة الحيوان أو الأسماك أو المتحف المصرى أو الإسلامى أو القبطى.. قرأنا المكتبة الخضراء كلها فى السنة الرابعة الابتدائية، وكنا نستعيرها من مكتبة المدرسة التى لم تكن سوى دولاب كبير فقط ونرجعها فى اليوم التالى.. بدأنا فى شراء مجلات «سمير» و«ميكى» فى السنة الخامسة الابتدائية، كنا نكتب عن المواضيع الوطنية والقومية، خاصة فى حرب 1956 التى عشناها فى ذلك العمر، وانتقلنا إلى المرحلة الإعدادية ونحن نجيد القراءة والكتابة والخط باللغة العربية، وفى العام الأول الإعدادى كان يدرّس لنا «الشيخ طه»، وهو أزهرى معمم، وهو من حبّب لنا الشعر والأوزان، وكان يعلمنا الموسيقى الخفية فى الشعر، وكيف نلقيه، وبدأنا فى نفس العام فى تعلم اللغة الإنجليزية حتى العام الثالث الإعدادى، حيث كان الأستاذ «حسن» هو المسئول عن الإنجليزية فى الشهادة الإعدادية، ولا أنسى كشكول الأستاذ حسن الذى كان يهتم به جداً، ويقول لنا: سوف تذاكرون فى الثانوية العامة من هذا الكشكول، وقد صدق، وكان هذا الكشكول مرجعنا فى الثانوية العامة. بدأنا اللغة الثانية وهى الفرنسية فى المرحلة الثانوية.. أما الأنشطة على أيامنا فكانت كثيرة، الرحلات كل شهر، وكنا نكافأ لو كنا من الخمسة الأوائل برحلة مجانية أو علبة ألوان وكراس رسم، كانت لدينا صالة خاصة بالرسم فى الابتدائية والإعدادية والثانوية، وزاد عليها فى الثانوية غرفة لعمل الفخار ودولاب الفخار والطمى، وأيضاً فرن لحرق التماثيل والفازات، وغيرها من أنشطة التدبير المنزلى والحياة. ورغم أننا كنا فى الثانوية العامة، ولم تكن قد تحولت إلى عام الرعب والفزع والمذاكرة ليلاً ونهاراً، فقد قمنا بعمل مسرحية العام من القصة المقررة علينا باللغة الإنجليزية وهى «كليوباترا»، وقدمنا مسرحية باللغة الإنجليزية، ثم بعد أسابيع قليلة، وكان قد تبقى على امتحان الثانوية العامة شهران فقط، صممنا على الاشتراك فى رحلة الأقصر وأسوان لمدة أسبوع.. كانت الدراسة والمدرسة شيئاً محبباً وبسيطاً بلا عقد ولا اكتئاب ولا هلع لأولياء الأمور، وكان التميز بالنسبة لنا فى مَن رسم لوحة تعلق على حائط الفصل، أو من قال خطبة فى الإذاعة الصباحية، أو من مثلت فى مسرحية أو رقصت فى حفلة نهاية العام. كنا نُحيّى العلم مع «نشيد مصر أمنا»، ثم تبدّل بعد ذلك بنشيد «والله زمان يا سلاحى»، بعد حرب 1956.. تعلمنا أن نهاب المعلم ونحترمه، وكان رضا المدرسة عنا يسعدنا بشدة.. تعلمنا الوطنية والانتماء. وباختصار، تعلمنا بالفعل.
تذكرت كل هذا وأنا أقرأ تفاصيل التعديلات التى أدخلها وزير التربية والتعليم، سواء فى طريقة التعلم أو وسائلها أو تأصيل اللغة العربية فى المرحلة الابتدائية.. فى وسائل الأنشطة والترفيه، وفى تعلم السلوك والخلق، وفى توحيد المستوى التعليمى على مستوى الجمهورية، وفى إعادة الاحترام والقيمة لمدارس الحكومة التى كانت على أيامنا للمتفوقين بينما المدارس الخاصة للضعفاء، ولكن الآية انقلبت، وكان لا بد من إعادة وضعها مرة أخرى، وهذا ما فعله الوزير الذى أدعو له بكل التوفيق.
نقلا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع