صار الحديث عن مشاكل الصحافة الورقية هو موضوع الساعة، وجرى تناول أسبابها من كثيرين، منهم من أرجعها إلى أسباب اقتصادية- وهذا صحيح- تتمثل فى زيادة مبالغ فيها فى أسعار الورق، وتراجع الإقبال على القراءة، إلى جانب أسباب أخرى تعود إلى النواحى الاقتصادية.
والبعض عرض تصوره الذى يرى الصحافة الورقية تواجه منافسة عاتية من الإعلام الإلكترونى، قد تؤثر على مستقبله. والصحيح أيضا أن صحفا فى بلاد أخرى قد توقفت عن الصدور، لتراجع التوزيع وقلة الإقبال على قراءتها، ولجأ ناشروها إلى الصحافة الإلكترونية. وفيما بين هذين الرأيين نطرح سؤالا: هل السبب الاقتصادى هو العنصر الوحيد للأزمة؟، ودون إغفال منطق أصحاب الرأى الآخر.
ومن خلال متابعة لأوضاع دول أخرى، منها أمريكا وأوروبا واليابان مثلا، يتضح أنها لم تفقد ارتباط القارئ بها، وأنها لاتزال حتى الآن مصدر إعلام وتنوير ليس للمواطن فقط بل للحكومات أيضا فى هذه الدول. ومن خلال النظرة الأوسع للأزمة الراهنة من واقع ارتباطى بالمهنة نظريا وعمليا، من خلال التدريس لمدة 17 سنة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، وما اكتسبته من خبرات فى مدارس صحفية- وأقصد أن أصفها بهذا التعبير تحديدا. فقد أمضيت سنوات فى بداية عملى بدار أخبار اليوم قبل انتقالى للأهرام، كما حرصت أثناء تواجدى فى بريطانيا ثم أمريكا ألا أكتفى بقراءة الصحف، بل بالسعى لزيارات لدور الصحف الرئيسية فى هذه البلاد والتواصل مع محرريها فى مناقشات قد تتصل بالسياسات التحريرية، وبدور الصحافة كسند لأداء الدولة ذاتها لدورها.
ثم ما لمسته من أن الصحف هناك كانت ولاتزال إلى اليوم ملهمة للدولة. وأحيانا تلفت نظر الدولة إلى معلومات أو تحليلات أو أفكار لم تكن الدولة قد تنبهت لها. وحدث شىء من هذا أمامى فى واشنطن أثناء المؤتمر الصحفى اليومى للمتحدث بوزارة الخارجية، حيث سأله أحد المراسلين عن خبر نشر يومها فى الواشنطن بوست، وكان رده أننا لم نعلم به وسوف أستعلم من حكومتى وأرد عليكم غدا، وكان هذا الخبر دافعا للدولة للاستفادة سياسيا مما نشرته الصحيفة. وعلى ضوء ما يمكن استخلاصه من رحلتى الصحفية يتبدى أمامى أحد أهم مفاتيح الخروج من الأزمة الراهنة. وتلك وجهة نظر تحتمل الجدل.
أول المفاتيح هو التحرير بناء على قواعد فن التحرير الصحفى، ويختص أحد جوانبها بالمحتوى الذى تقدمه الصحيفة يوميا من مادة تشبع عقل القارئ، وكذلك احتواء الصحيفة بدءا من الصفحة الأولى على مواد جاذبة للقارئ وتنوع للموضوعات والأخبار.
تعود بى الذاكرة إلى ما كنت قد تابعته على يد اثنين من رواد الصحافة فى مصر باعتبارهما نماذج لما أتحدث فيه اليوم. وهما مصطفى أمين وإحسان عبدالقدوس، وذلك فى سنوات عملى بأخبار اليوم قبل انتقالى للأهرام.
كل منهما يضع أمام القائمين على تحرير الجريدة لمساته التى يستلهمها من القارئ، والذى يرتبط بصحيفته وكل حسب المدرسة الصحفية التى ينتمى إليها. وفى الأهرام كانت صحافة محمد حسنين هيكل، صاحبة تجربة ورؤية ناضجة ومتنورة لقواعد فن التحرير الصحفى. أما أن تتحول الصفحة الأولى فى جريدة ما إلى ما يشبه النشرة الحكومية، وترص فيها الأخبار رصا، دون إضافات إبداعية من جانب الصحيفة، فهذا يعد أحد أسباب إعراض القارئ الذى سبق أن كان لديه علم بنفس الأخبار قبلها بيوم، عن طريق برامج التليفزيون والنت، وأن الإضافات الإبداعية يحتم استخدامها قانون المنافسة الذى تعيشه الصحافة مع البرامج الإخبارية لوسائل التكنولوجيا الحديثة. وهذا ما يفعله البعض من الصحف هنا وكثير منها بالخارج فى اللجوء إلى أصحاب الخبرة والمعرفة لفتح نوافذ توسع دائرة الخبر وتزيده ثراء، وربما تستحق شروح هؤلاء أن تسبق الخبر الذى صار معروفا.
هنا لا أنسى عبارة لموسى صبرى، وهو رئيس تحرير الأخبار أيام كنت محررا بها. لقد كان من عادته أن يراجع بنفسه ما انتهى مسؤولو الدسك المركزى من إعداده من أخبار لليوم التالى. وإذا لاحظ وجود خبر كان القارئ قد علم به اليوم يقول: هذا عيش بايت، بمعنى أن ما يقدمه الخبر لم يعد طازجا، ثم يمزق الخبر.
تنطبق هذه المعايير على بقية الصفحات ومختلف الأقسام بدءا من أقسام الأخبار والتحقيقات والتصوير والأدب والفن ومقالات الرأى وغيرها. والوعى بأن الصحيفة تعكس واقع المجتمع وتشخص بدقة ما يعانيه وما يرتضيه.
وإذا بحث القارئ فى صحيفة فى الصباح ولم يجد بها ما كان يشغل باله وتفكيره فى اليوم السابق، فهى تتحول فى نظره إلى مجرد كلمات مصفوفة على ورق.
الصحافة فى عصر التطور التكنولوجى تحتاج إلى تصورات مبتكرة للأداء الصحفى، وتلزمها برامج تدريبية متطورة للمحررين، ويسبق ذلك إدخال مناهج متطورة فى كليات الإعلام.
الأهم أن تعترف الدولة بأن دور الصحافة فى إثراء وجدان الشعب يمتد أيضا إلى دورها كسند للدولة ذاتها. فالصحافة لم تكن أبدا بمعزل عن السياسة فى الدولة، فالتأثير بينهما متبادل ومستمر، والقارئ طرف أساسى فى هذه المعادلة. ومعروف أن الصحف فى العالم المتقدم لايزال لها تأثير على صانع القرار حين تلهمه بأفكار لم يكن قد تنبه لها، وأن توحى إليه بسياسة لم تكتمل صورتها أمامه.
تلك كانت مقولة جيمس ريستون الذى كان يوصف فى الثمانينيات بعميد الصحافة الأمريكية، فى محاضرة كنت حاضرا بها، وأنا أستوعب ما يقوله الرجل بناء على خبرته كصحفى أولا وكشخص كان قريبا جدا من رؤساء أمريكا.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع