ليس مقدراً لجماعة الإخوان أن يطول تسترها وراء أكاذيبها التى تعد أولى وأهم خصائصها، ولسوء حظهم أن أجهزة المخابرات البريطانية والأمريكية التى استخدمتهم، مضطرة بعد مرور السنوات التى يحددها القانون لرفع الحظر عن الوثائق فائقة السرية، ولكى تعاد كتابة الأحداث على حقيقتها.
وحتى اليوم، فإن الإخوان كعادتهم مستمرون فى إنكار محاولتهم اغتيال عبدالناصر فى المنشية عام 1954، ويصفونها بالتمثيلية، لكن كلا من جهاز المخابرات الخارجية البريطانى «mi6»، ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA، قد فتحا صفحاتهما المحجوبة أمام من يسعى وراء الحقائق المخفية، وإضافة المزيد من المعلومات، بالقول إن محاولة اغتيال عبدالناصر فى المنشي�� لم تكن الوحيدة، فقد سبقتها ولحقت بها محاولات، كُلف الإخوان بتنفيذها للإطاحة بعبدالناصر، ووضع السم له فى طعامه أو شرابه، وكذلك محاولة أخرى لاغتياله أثناء حرب السويس، وتبقى التفاصيل أوسع مدى من هذه الوقائع، فهى تحتوى على عمالة الإخوان للعديد من المخابرات الأجنبية، وكلها مسجلة فى وثائق هذه الأجهزة المخابراتية.
محاولة المنشية تمت بأمر مباشر من رئيس وزراء بريطانيا
تقول وثائق جهاز «mi6» إن رئيس وزراء بريطانيا اتصل بمدير محطة المخابرات البريطانية فى القاهرة، واسمه جورج يانج، وأمره بالترتيب مع تنظيم الإخوان لاغتيال عبدالناصر.
وفى الحال التقى «يانج» بقيادات الإخوان، واتفقوا على أن يتولى الجهاز الخاص بالتنظيم تنفيذ خطة الاغتيال التى فشلت.
وسبقت مؤامرة المنشية محاولات أخرى للمخابرات المركزية الأمريكية، يكشف عنها الجاسوس والضابط السابق بالمخابرات المركزية طوال 21 عاماً، روبرت باير فى كتابه See Mo Evil، عن محاولات للمخابرات الأمريكية للإطاحة بعبدالناصر، لكنها لم تنجح، ثم يكمل التفاصيل رجل المخابرات الأمريكية الأشهر مايلز كوبلاند، بأن محاولات أمريكا للتخلص من عبدالناصر وصلت إلى وضع خطة عرفت بدس السم فى شرابه أو طعامه، لكن فشل تلك الخطة أيضاً دفعها للجوء إلى بريطانيا- الراعى القديم للإخوان- لقتله وكان ما حدث فى المنشية.
هذه اللهفة التآمرية لدى جهازى المخابرات للتخلص من عبدالناصر وراءها دوافع سياسية، يكشف عنها رجل المخابرات الأمريكى لى مارتن فى كتابه «المخابرات المركزية والإخوان المسلمون»، ويقول إن مشاعر القلق من عبدالناصر كانت تتزايد لدى المسؤولين الأمريكيين، والتى جعلت عبدالناصر يبدو فى نظرهم أشبه بمدفع جاهز للانطلاق فى وجوههم، فكانت مساعيه لإحياء القومية العربية، وإنشاء حركة عدم الانحياز تمثل توجهاً مضاداً لخطط أمريكا والغرب، لإقامة تحالف من دول العالم الثالث، فضلاً عن أن فكرة عدم الانحياز فى حد ذاتها بدت فى نظر جون فوستر دالاس شيئاً بغيضاً، لأنها تعطى دفعة قوية لصعود مكانة عبدالناصر كقائد له جاذبية جماهيرية، يمكن أن تجذب العرب والمسلمين للاصطفاف وراءه، ومن ثم بدأت خطط دالاس للتخلص من عبدالناصر بأى طريقة.
ومنذ بداية نشأة حركة الإخوان فقد سعت لدعم علاقتها بالمخابرات البريطانية، والتى كان لبرنارد لويس دور هام فيها، ولويس الذى ذاع اسمه فى سنوات لاحقة فى الولايات المتحدة التى انتقل إليها من وطنه بريطانيا، وتجنس بالجنسية الأمريكية. لويس هذا بدأ حياته العملية جاسوسا مقيما فى عالمنا العربى، فهو أصلاً ولد فى بريطانيا عام 1916 لأبوين يهوديين، وخدم بالجيش البريطانى، ثم ألحق بوحدة المخابرات، وظل لسنوات طويلة يوصف بالجاسوس البريطانى فى الشرق الأوسط. وبرز دوره أثناء نشاطه بجهاز المخابرات الخارجية «mi6»، كما لعب دوراً أساسياً فى تشكيل العلاقة المخابراتية بين الإخوان والمخابرات المركزية الأمريكية فى سنوات لاحقة، وأيضاً بينها وبين بعض جماعات الإسلام السياسى الأخرى.
المخابرات المركزية تعترف: سعيد رمضان عميلنا الرسمى
هذه العلاقة ظهرت أمامى أثناء فترة عملى مديراً لمكتب الأهرام فى واشنطن، ومراسلاً فى الأمم المتحدة، حيث أتيح لى الاطلاع على الأوراق الخاصة ببدايات نشاط الإخوان كعملاء رسميين للمخابرات المركزية، فمن عادة أى رئيس أمريكى بعد مغادرته البيت الأبيض أن يؤسس ما يعرف بالمكتبة Liberary وهو تعبير مبسط، لأن المكتبة يقصد بها الرئيس أن تبقى تراثاً يتركه وراءه، يكون مفيداً لشعبه، وهى أكثر من كونها مكتبة، فهى مؤسسة متعددة النشاطات، لما تنظمه من منتديات، وندوات، وبحوث، ويبقى أهم ما فيها القسم الخاص بقراراته الرئاسية، والكثير منها محاط بالسرية لمقتضيات الأمن القومى. وفى الغالب ينشئ الكثير من الرؤساء مكتباتهم فى مسقط رأسهم، فأيزنهاور على سبيل المثال أنشأ مكتبته فى بلدة أبيلين بولاية كنساس، ولأننى كنت أعرف أن علاقة الإخوان بالأمريكيين بدأت فى عهد أيزنهاور، فقد سافرت إلى هناك وطلبت الاطلاع على ما سمى أرشيف أيزنهاور الرئاسى.
The Appointment Book The Eisenhower Presidentiol Archives
ويتكون الأرشيف من 1400 صفحة مقسمة إلى أجزاء، ومتضمنة شرحاً تفصيلياً لبداية علاقة أمريكا بالإخوان، وكيف أقيمت علاقة التعامل المنظمة بينهما.
إن البداية طرحت كفكرة من برنارد لويس، وتبناها وزير الخارجية جون فوستر دالاس، ثم عرضها على الرئيس أيزنهاور، وبدأ التنفيذ عام 1953، بدعوة وجهها دالاس لعدد من ممثلى فروع الإخوان فى دول عربية، والتى كان حسن البنا قد كلف زوج ابنته سعيد رمضان بالسفر إلى دول عربية وإنشاء فروع للإخوان بها، ومنها فلسطين، والأردن، وسوريا، وغيرها.
الدعوة وجهت لهم لحضور مؤتمر بجامعة برينستون، بزعم مناقشة قضايا ثقافية، ومثلّ إخوان مصر بها سعيد رمضان، بينما كان المؤتمر فى حقيقته مسعى لعلاقة تعاون، ولقيام المشاركين بعد العودة إلى بلادهم بالترويج فى مجتمعاتهم لأفكار تخدم المصالح الأمريكية.
ويقول ضابط المخابرات المركزية «روبرت دريهر»، الذى عين حلقة وصل بين الجهاز ورمضان، إن سعيد رمضان أصبح منذ يوم حضوره مؤتمر برينستون عميلاً رسمياً للمخابرات المركزية.
وتطورت العلاقة بينهما، ليس فى مصر وحدها، بل فيما تطلبه المخابرات المركزية من الإخوان فى دول المنطقة، وكما كتب ضابط المخابرات روبرت باير أن المسؤولين الأمريكيين كانوا ينظرون للإخوان كحليف صامت، باعتبارهم سلاحهم السرى، وأن العلاقة جمعت بينهما فى قضايا نظرتهم إليها واحدة، مثل العداء للقومية العربية، وأن أمريكا استخدمتهم فى تنفيذ أعمالنا القذرة، فى اليمن، وأفغانستان، ومناطق أخرى عديدة.
فشل محاولة الاغتيال الثانية فى عام 1956
دفعت أحداث تأميم قناة السويس إلى تكرار محاولة اغتيال عبدالناصر، باتفاق «بريطانى- أمريكى» عام 1956، وقتها كان جورج يانج- الذى دبر مؤامرة المنشية مع الإخوان- قد رقى إلى منصب نائب مدير المخابرات الخارجية البريطانية «mi6»، وكما وصفه ضابط المخابرات المركزية الأمريكية من مقره فى لندن، جيمس إيكلبيرجر، بأن يانج سيطرت عليه رغبة جارفة فى القضاء على عبدالناصر.
فى هذا الوقت نقل عن رئيس الوزراء إيدن قوله إنه يريد تدمير عبدالناصر وقتله، وتم بالفعل وضع خطة لاغتياله أثناء العدوان الثلاثى- أو ما يسمونه حرب السويس عام 1956، بل إن يانج اقترح تغيير أنظمة الحكم فى ثلاث دول عربية، وليس فى مصر وحدها، لكن الخطة الثانية فشلت، مع فشل حرب السويس، وبعدها أصيب يانج بالاكتئاب، وترك عمله بالمخابرات فى عام 1962، ونقله جهاز المخابرات للعمل فى مجال البنوك.
ضابط آخر فى جهاز المخابرات الداخلية «mi5» من 1955- 1976 وهو بيتر رايت، قال: كانت لدينا وحدة سرية مستعدة لاغتيال رؤساء دول، ولو كان الاغتيال قد تم عن طريق عمل إرهابى- ومن ورائه وحدتنا السرية- فلن تتأثر سمعتنا فى الشرق الأوسط والعالم.
لم يكن الإخوان بعيدين عن هذه الخطط، فقد استخدمتهم بريطانيا وأمريكا مخلب قط، لإسقاط أنظمة تريد تغييرها، وكما يقول رجل المخابرات الأمريكية الأشهر مايلز كوبلاند، إن المخابرات المركزية استمرت فى تقديم الدعم والتأييد للإخوان، فى السنوات التى توالت بعد قرار عبدالناصر بحل تنظيم الإخوان.
العمالة الإخوانية.. من أيام أيزنهاور حتى ترامب
قد يتصور البعض أن تلك علاقة قديمة تغيرت مع الزمن، أو أن حبالها انقطعت، لكن الإخوان إلى هذا اليوم داخل منظومة مخابراتية أمريكية، تنوعت أدوارهم فيها، خاصة فى فترة حكم جورج بوش، ومن بعده أوباما، وأنها فى حساباتهم استثمار تاريخى لا يمكنهم تبديده، وإذا حدث أن فكر أى رئيس أمريكى فى تغيير موقفه منهم أو وصمهم بأنهم جماعة إرهابية، فإن المخابرات المركزية تسرع بفتح ملفاتهم أمامه، وهو نفس ما فعلوه مع ترامب الذى أعلن أنه سينهى وجود الإخوان فى أمريكا باعتبارهم منظمة إرهابية، وسرعان ما اضطر للتراجع وهو يطلع على وثائق خدماتهم التى لا تتوقف لأمريكا، كعملاء يدينون لها بالولاء ولا نبالغ إذا قلنا وبالسمع والطاعة.
نقلا عن المصري اليوم القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع