بقلم - نبيل عبد الفتاح
رتفاع معدلات حوادث قطارات السكك الحديدية خلال العقود الماضية، ونتائجها الدامية من حرائق، وموت، وعاهات مستديمة، وإصابات وجروح، ومال عام مهدر، كلها علامات بالغة الخطورة حول تحولات فى بنية الثقافة المصرية، وفى مستويات الوعى الاجتماعى، وفى تدهور شديد فى مستويات الكفاءة والخبرة لدى غالب العاملين والموظفين فى أجهزة الدولة المصرية.
لا ينبغى التركيز فقط على الأسباب المباشرة لكل حادث وفاجعة، والسعى إلى تحديد المسئولية الجنائية والإدارية، ولا إلى متابعة تحقيقات النيابة العامة وأهل الخبرة على أهمية ذلك الكبرى، أو النقد الحاد الموجه إلى الحكومة أو الوزير المسئول، وهى أمور يمكن فهمها كجزء من الحالة العامة للبلاد، إلا أن ذلك يؤدى فى حقيقة الأمر إلى التغطية، وتجاهل الجذور الحقيقية، والعوامل التى أدت ولا تزال إلى إنتاج هذا النمط من الكوارث الخطيرة .
أدمنا الحديث عن نقد النخبة السياسية الحاكمة، وهذا حق وواجب دائم، لكن نغفل عن نقد ثقافة المجتمع، والأحرى ثقافاته السائدة وسط الفئات الاجتماعية المختلفة. ثمة انتشار وبائى لظاهرة تعاطى المواد المخدرة وسط بعض السائقين، والمواطنين وتحولت إلى جزء من سلوكيات متع الحياة اليومية لبعضهم، بكل تأثيراتها السلبية على سلوكياتهم المهنية والأسرية، وعلى قيادة بعضهم القطارات، وعربات النقل والمركبات العامة والخاصة، أو على أداء بعض المتخصصين والحرفيين فى إصلاح القطارات والمركبات والكهرباء و... إلخ!
فى كل مناحى الحياة اليومية ثمة اختلالات وعدم كفاءة، ونمط من السلوك الفهلوى، الناتج عن حالة التخدر والغيبوبة، وذلك لتعاطى أشكال مختلفة من المواد المخدرة المخلقة التى انتشرت وسط بعض الشباب وكبار السن!
مجتمع بعض شبابه وشيوخه مخدرين، كيف يمكنه أن يؤدى عمله فى كفاءة وحيطة وتبصر؟ ثمة ضعف فى التكوين المهنى والخبراتى والتعليمى، وعدم تطوير الخبرات وغياب للتأهيل المستمر لمواجهة التطور التقنى فى كل تخصص! ثقافة تؤصل للامبالاة، والإهمال، واللامسئولية، ويعود ذلك إلى أن التنشئة الاجتماعية والدينية، لا تنمى فى الأطفال والشباب، مفاهيم الإرادة الحرة والمسئولية عن الفعل الإنسانى، والثواب والعقاب على الأفعال التى أتى بها الطفل والشاب والتربية على ضرورة احترام النظام، والتخصص والمعرفة، وإنما إنماء ثقافة ادعاء المعرفة والإفتاء فى أمور لا يعرفها الشخص.
الأخطر أن التنشئة الدينية السائدة، تعتمد على نفى الإرادة «الفردية» وأن كل السلوكيات والقرارات التى يتخذها المرء فى الحياة، هى أمور مسيرة وحتمية ولا رادَّ لها، والأخطر محاولة بعض رجال الدين وحركيى الجماعات الإسلامية والسلفية السياسية تفسير ونسبة الفعل الإنسانى كله إلى رب العزة جل جلاله وهو على كل شىء قدير، فى محاولة لنفى مسئولية المرء عن فعله الخاطئ، والشرير والمذنب والمهمل، والذى يؤدى إلى كوارث إنسانية خطيرة تؤدى إلى موت آخرين، أو إصابتهم بالجروح الدامية، والإصابات الخطيرة، أو الأمراض المزمنة.. الخ تبرير هذا النمط من التدين ذى الطابع القدرى الذى ينفى الإرادة الإنسانية والمسئولية، يتناسى أن الإيمان عقيدة وقناعة وإرادة وسلوك عاقل بالربوبية والألوهية لرب العالمين جل جلاله، وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وعقائده وأركان ديانته، وطقوسه لدى المسلمين. هذا الترويج لنمط من التدين القدرى، هو أقرب إلى التدين الشعبى الريفى, لا الدين طبعاً, الذى يتداخل مع أنماط الثقافة الريفية التى ارتكزت تاريخياً على الخضوع لحتميات الطبيعة، والدورة الزراعية وثقافة الكذب والمداراة والخوف من طغيان الحكام والولاة وأهل السلطة والنفوذ والمكانة! إنها ثقافة القهر الوضعية، التى جعلت غالب أهل الريف يحاولون تبرير نوازل الحياة وكوارثها، وسطوة السلطة، بأنها جزء من الأقدار، وليست سلوكيات بشرية والمسئولون عنها مصريون مثلهم، سواء أكانوا من أهل الحكم أو من كبار العائلات وملاك الأراضى الزراعية.. الخ ممن تربطهم وشائج المصالح وخدمة السلطة الجائرة طيلة التاريخ المصرى.
هذا النمط من الثقافة القدرية الوضعية، تداخلت مع أنماط من الوعظ والتفسير الدينى الوضعى لبعض المشايخ ورجال الدين والسلفيين التى حاولت إضفاء تفسيرات وتأويلات دينية وضعية تبرر هذه الثقافة وتسوغها، ولا تثور عليها وترفضها! من هنا تجذرت ثقافة القدريات، وعدم المسئولية عن الفعل الإنسانى، وتناسلت من خلالها روح الإهمال، واللامبالاة التى تمددت فى أجهزة الدولة المختلفة، فى ظل ظاهرة ترييف الدولة والمدن، وهو ما يتجلى فى اللامبالاة بالزمن فى أداء الوظيفة العامة، وعدم الكفاءة التى ارتبطت بتدهور مريع فى كل كافة الأنظمة التعليمية منذ منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضى وإلى الآن!
من ناحية أخرى شيوع ثقافة مضادة لقانون الدولة من بعض الدعاة والسلفيين والجماعات الإسلامية السياسية، بدعوى التشكيك فى عدم شرعيته الدينية، وذلك بتبرير أنماط الخروج على قواعد القانون، واللجوء إلى قوانين الأعراف، أو لأشكال من الحلول الأخرى، وهى ظواهر تشابكت مع عدم احترام قوانين المرور، وانتشار حوادث الطرق على نحو خطير.
كلها ظواهر وسلوكيات خطيرة تشير إلى ضرورة نقد ثقافة المجتمع المصرى وتحولاتها، التى طرأت على أنساق القيم والسلوك والأخلاقيات والتدين الشعبى السائد، وسطوة التعاليم الدينية الوضعية التى يحركها دعاة وشيوخ تماهوا مع الفكر القدرى والغيبى والشعبى الريفى، على نحو أصبح يشكل حالة جماعية خطيرة تحتاج إلى وقفة حازمة ومسئولة من الدولة والنخب على اختلافها، والأزهر وعلمائه لبحث أسبابها وعواملها، وكيفية الخروج من دوائرها التى تبدو وكأنها مفرغة! وقفة حزم وإرادة ومسئولية.
نقلا عن الاهرام القاهريه
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع