بقلم - جمال عبدالجواد
فى سياق الجدل بين القائلين بأولوية الإصلاح السياسي، والآخرين القائلين بأولوية التنمية الاقتصادية؛ غابت قضية الإصلاح الإداري. قليلون فى مصر يتعاملون مع إصلاح الإدارة الحكومية بالجدية الكافية، فبدت هذه القضية كاليتيم الذى لا يهتم لشأنه أحد. رجال الأعمال يطالبون بالتركيز على الاقتصاد، خاصة من زاوية الإصلاحات التى تتيح لهم ربحا أكبر وأسرع. عموم المواطنين يهتمون بالاقتصاد أيضا، لكن من زاوية الأسعار. نشطاء السياسة يركزون على إصلاح سياسى يتيح لهم مساحات أوسع للحركة والتعبير. لكن لا أحد يهتم بالإصلاح الإداري.
فى يناير 2016 انعقد مجلس النواب لأول مرة بعد انتخابه. وفقا لنص الدستور، كان على المجلس مناقشة القوانين التى أصدرها الرئيس فى غيبة المجلس خلال أسبوعين اثنين فقط. ناقش المجلس 331 قانونا فى أسبوعين احتراما للدستور. وافق المجلس على جميع هذه القوانين إلا قانونا واحدا: قانون الخدمة المدنية. كان على الحكومة التقدم بقانون جديد يرضى عنه المجلس. أنفق المجلس وقتا ثمينا فى مناقشة النسخة المعدلة من قانون الخدمة المدنية، ووافق عليه أخيرا بعد ما يقرب من عام كامل من المناقشات. لم يقف مجلس النواب مثل هذه الوقفة القوية عند مناقشة أى قانون آخر. تبنى النواب مطالب الموظفين، كما لو كانوا نوابا عن موظفى الحكومة وليسوا نوابا عن الأمة. فى النهاية تم عقد الصفقة الكبرى بين الحكومة والنواب. الحكومة المأزومة ماليا تمسكت بما من شأنه السيطرة على فوضى وتضخم بند الأجور فى الموازنة العامة للدولة. منح النواب للحكومة أغلب ما أرادته فى هذا المجال، مقابل تخفيف الإجراءات التى كان من شأنها معاقبة الموظفين المقصرين، وتطوير أداء الجهاز الإداري.
الحكومة نفسها لا تبدو مدركة لأهمية الإصلاح الإداري. تم إلغاء وزارة الدولة للتنمية الإدارية منذ حكومة إبراهيم محلب الثانية فى يونيو 2014، ومنذ ذلك الحين والتنمية الإدارية ملحقة بمهام وزير التخطيط والمتابعة. لم يعد هناك وزير متفرغ للإصلاح الإداري، وبات الاهتمام بهذه القضية مرهونا بتفضيلات الوزير، وخلفيته المهنية، وما إذا كانت أعباء مسئولياته الأخرى تسمح له بالتفكير فى الإصلاح الإداري. لم نسمع وزيرا يتحدث عن الإصلاح الإدارى منذ مرافعات وزير التخطيط أشرف العربى فى البرلمان دفاعا عن قانون الخدمة المدنية. أصبحت قضية الإصلاح الإدارى متروكة للجهاز المركزى للتنظيم والإدارة، وهو جهاز بيروقراطى لا يختلف كثيرا عن أجهزة الحكومة الأخرى المطلوب إصلاحها. زيارة واحدة لموقع الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة على شبكة الإنترنت كافية لإقناعك بأنه لا أمل فى الإصلاح الإدارى طالما تم وضع الأمر فى يد هذا الجهاز. لن تجد على موقع الجهاز سوى بيانات قليلة صماء، وبعض التقارير الهزيلة، التى يسمونها دراسات. الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة هو جزء من مشكلة الإدارة العامة فى مصر وليس جزءا من الحل، بغض النظر عن كفاءة القيادات المتتابعة المنتدبة لرئاسته.
لابد من عودة وزارة التنمية الإدارية وزارة مستقلة فى الحكومة الجديدة المنتظرة مع بدء فترة الرئاسة الثانية. نريد من الوزير الجديد نظاما واقعيا ودقيقا لقياس أداء الجهاز الحكومي، وخطة فعالة لرفع مستويات الأداء فيه. نريد أن نعرف ما هى الوزارات الأكثر نجاحا فى تطوير نظامها الإداري، وما هى الوزارات التى تعشش فيها المقاومة البيروقراطية. نريد أن نرى تقريرا سنويا تفصيليا، نعرف منه العدد الدقيق للموظفين فى الجهاز الإدارى للدولة، وتوزيعهم بين الفئات المختلفة، ومتوسط الأجر فى كل فئة. نريد أن نرى قياسا دقيقا لحجم الوقت الذى يقضيه المواطنون فى دهاليز الحكومة، وأن نرى هذا الوقت وهو يتراجع سنة بعد أخري.
نريد للإصلاح الإدارى أن يكون أحد المهام المطلوبة من كل وزير فى حدود وزارته. نريد للإصلاح الإدارى أن يكون أحد معايير تقييم أداء الوزراء. نريد وكيلا متفرغا لشئون الإصلاح الإدارى فى كل وزارة. نريد من الوزير أن يحدد فى كل عام واحدة من المصالح أو الإدارات التابعة لوزارته، فيقوم بتطويرها، أو يقوم بإلغائها نهائيا إذا تبين أن تطورات المجتمع والتكنولوجيا والثقافة قد تجاوزتها.
إذا كان لى أن أرتب الأولويات، فإن الإصلاح الإدارى يأتى مباشرة فى مرتبة تالية للتنمية الاقتصادية، بل وأظن أننا دخلنا مرحلة بات فيها تحقيق المزيد من النمو الاقتصادى مرهونا بإصلاح جهاز الإدارة الحكومية. لقد قامت القوات المسلحة بجهود رائعة فى مجال التنمية والبناء، وبأفضل وأرقى طريقة ممكنة، فمكنتنا من تحقيق تنمية سريعة بكفاءة عالية، لتعويض البطء والفساد ونقص الإمكانات والكفاءة فى الجهاز الإدارى للدولة. كان هذا حلا مؤقتا مبدعا لمشكلة الجهاز الإدارى المترهل، والذى زاد ترهلا فى سنوات الاضطراب الثوري. وأظن أن الوقت قد حان للبدء فى تأهيل الجهاز الإدارى لتولى مسئولياته بكفاءة.
إصلاح الجهاز الإدارى يساوى تقديم خدمات أفضل للمواطنين، وهذا هدف مطلوب لذاته، وهو أيضا ضرورة سياسية ملحة. الإصلاح الاقتصادى الناجح الجارى تنفيذه، ليس من النوع الذى يتيح توزيع العطايا على المواطنين، كما كان يفعل رؤساء سابقون فى مصر. الإصلاح الاقتصادى الحالى يخلق فرص عمل حقيقية جديدة، بعائد أعلي، وفى ظروف عمل أفضل. لكن زمنا طويلا سوف يمر حتى تصل هذه المكاسب لأعداد كبيرة من الناس، فنجد فى كل أسرة عاملا فى وظيفة جديدة بأجر عال وظروف عمل إنسانية. سيظل الناس يتحدثون عن الإصلاح الاقتصادى الذى لم يكسبوا منه شيئا، لبعض الوقت، ولابد من تعويضهم عن الأسعار المرتفعة والضرائب الأعلى بخدمات أفضل؛ فلا يضطرون لاستنزاف جنيهاتهم القليلة مقابل دروس خصوصية أو علاج خاص مكلف؛ ويعيشون فى أحياء خالية من أكوام القمامة ومخلفات البناء، و شوارع لا يتم حفرها يوما بعد آخر دون إعادة رصف، وشفافية فى تطبيق قوانين البناء والمحلات العامة، تحميهم من بلطجة وفساد الموظفين.
فتح قضية الإصلاح الإدارى هو دخول فى عش الدبابير، وقد تم لدغ الحكومة هناك من قبل، ولن يتم إصلاح الجهاز الإدارى إلا على يد رئيس لا تردعه المهام الصعبة، ولا تشغله شعبية زائفة.
نقلا عن الاهرام القاهريه
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع