انتهت مسابقة الأمم في كرة القدم ويبقى السباق الأكبر بينها في مضمار التقدم، الذي لا تحسم مبارياته صافرةُ حَكم عند نهاية وقت أساسي أو إضافي، فهو سباق مستمر ما استمرت الحياة. انعقدت المقارنات بين أسس الفوز في لعب الكرة وأسباب الهزيمة فيها، وسيقت حجج ومبررات وتبارى المحللون في رصد الدروس المستفادة وغير المستفادة.
حقاً وجدنا كأس العالم الأخير يُظهر أن اللعبة تعكس في تطورها ما حدث للعالم حولنا من اعتماد كبير على رؤوس الأموال الضخمة العامة والخاصة. فقد أُنفقت الأموال الطائلة على بناء الملاعب والمدرجات، وسفر وانتقال المشجعين والفرق وإداراتهم الفنية، وتدبير أماكن إقامتهم، وخُصصت موازنات لتأمين فاعليات كأس العالم من المنغصات واستعدادات الطوارئ.
ولما أصبحت اللعبة أكثر اعتماداً على التكنولوجيا وجدنا سباقاً بين الحكومات والشركات والجهات المنظمة في الإنفاق على المعدات والأجهزة الجديدة، خصوصاً في مجال نقل المباريات عبر الشاشات. وبلغت تكلفة استضافة كأس العالم على روسيا الاتحادية وحدها كدولة مضيفة، نحو 14 مليار دولار أو ما يعادل 1% من دخلها القومي، وفقاً لصحيفة «موسكو تايمز»، أُنفق أغلبها على البنية الأساسية لشبكة النقل والمدرجات والملاعب وبنايات للإقامة. وأدرجت الحكومة الروسية هذا الإنفاق في إطار خطتها للنمو الاقتصادي في فترة الإعداد والارتقاء بالأنشطة الرياضية لمواطنيها مستقبلاً، مدفوعة بما حققه الإعداد المتميز من نجاح مشهود لتنظيم كأس العالم في المدن الروسية.
وشهد المتابعون أن اللعبة أصبحت أكثر احترافية وسرعة، وأكبر اعتماداً على التخطيط السليم في إعداد لاعبين أقوياء البنية، شديدي السرعة، رفيعي المهارة. كما تمايزت الفرق في كفاءة استخدام إمكانات اللاعبين، واتخاذ القرارات الحاسمة في توقيتات مناسبة باستبدالهم وتبديل مواقعهم في أثناء المباريات. وشاهدنا كيف كان الفوز المستحق واللعب المتميز، بل والهزيمة المشرفة التي لا تنتقص من احترامٍ لجهد مبذول، هي للفريق الأكثر تفاهماً وانسجاماً بين لاعبيه، والذي لا يتراخى بعد تسجيل هدف في الخصم ولا تتداعى صفوفه إذا ما بوغت بهدف في مرماه.
ومن ملعب منافسات الكرة إلى ملاعب الحياة وسباق التقدم تجد أن رأس المال الأهم الذي يستحق الأولوية بلا أدنى شك، ويتطلب الرعاية بلا أي إبطاء هو رأس المال البشري. وقد ظن كثير من الدول أن موارد طبيعية حظي بها باطن أرضها، وبنايات أقامتها عليها، قد تغنيها عن الاستثمار في رأس المال البشري، والذي يتمثل في تراكم لمحصلة ما يحظى به مواطنو البلاد وسكانها المقيمون من الصحة والتعليم والمهارات والمعارف والثقافة والسلوك المعين على التقدم.
ورغم التحسن الذي طرأ على مجمل أداء التنمية البشرية على مستوى العالم بفضل النمو الاقتصادي المطرد الذي تحقق في العديد من الدول، ورغم ارتفاع توقعات الحياة عند الولادة، وانخفاض عدد من يعانون من الفقر المدقع من 1850 مليوناً من سكان العالم في عام 1990، إلى 760 مليوناً في عام 2013 وهو رقم ضخم في عالم اليوم الذي لا تنقصه الثروة أو الموارد اللازمة لتخفيضه، وإن نقصته الهمة والإرادة في تنفيذ أولويات التنمية. ويُعقّد من الأمر ما يعانيه أكثر من ربع مليار طفل من سوء التغذية وأمراضها، وأن من نتائجها ولأسباب أخرى فإن أغلبية أطفال الدول النامية لا يستطيعون اجتياز اختبارات أساسية للتعلم.
من هذا المنطلق تأتي أهمية مشروع طموح لرأس المال البشري، أشار إلى مكوناته وأهدافه جيم كيم، رئيس البنك الدولي، في مقال نُشر مؤخراً في مجلة «فورن أفيرز». ويهدف هذا المشروع إلى قياس رأس المال البشري للدول، وتطوير مؤشراته وتحليلها، وترتيب الدول وفقاً لهذه المؤشرات بهدف زيادة الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية حجماً ونوعاً، وعون الدول على تطوير سياسات التنمية البشرية ومؤسساتها لتيسير التعامل مع متطلبات الاقتصاد الجديد الذي تتشكل معالمه بمستجدات الثورة الرقمية وتكنولوجيا المعلومات، ومدى تحقيق الاستفادة منه.
ما سيحتّم الاستثمار في رأس المال البشري مستقبلاً هو الإدراك المبكر من قبل الحكومات للخسائر الجسيمة الاقتصادية والاجتماعية المهددة للاستقرار، في حالة استمرار الهدر في هذا المكون الحيوي الذي يكمن فيه الفيصل بين نجاح التنمية أو إخفاقها، ويناط به الأمل في إحراز التقدم أو التشبث بحبال إنقاذ، لن تصمد طويلاً أمام مهددات السقوط في هوة التخلف.
في كتاب مهم عن «ممارسة النمو الاقتصادي» للدكتور جو كنغ سوي، أحد الآباء المؤسسين لسنغافورة الحديثة مع زعيمها التاريخي لي كوان يو، تجده قد ذكر في أكثر من موضع دور التعليم والتدريب ورعاية النشء صحياً وذهنياً في وضع سنغافورة على طريق التقدم. وقد تُعجب بفصل من الكتاب الذي خصه د. سوي، الذي شغل مناصب وزارية متعاقبة للدفاع والمالية والتعليم في بلاده، عن مكانة المعلم وتأهيله، أو بفصل آخر عن مقومات تمرد سنغافورة على السيناريوهات المتشائمة التي صُورت لمصيرها بعد الانفصال عن ماليزيا في عام 1965، وأن ما ينتظرها في المستقبل تراجيديا مأساوية لافتقارها إلى الموارد الطبيعية وحجم مناسب للسوق لقلة سكانها وفقرهم. فسنغافورة كما نعلم اليوم تحظى بمكانة متقدمة في سباق الأمم ليس فقط بمعيار متوسط الدخل، والذي تحظى فيه بتصنيف جعلها من الأغنى على مستوى دول العالم، ولكن أيضاً بالمعايير الدولية للتنمية البشرية والتنافسية والحوكمة ومناخ الاستثمار وممارسة الأعمال. جاء هذا حصيلة نهج متكامل للنمو الشامل والتنمية المستدامة اعتمدت على سبعة أسس للتقدم نقلها كيشور محبوباني، المندوب الدائم السابق لسنغافورة في الأمم المتحدة، في كتابه عن «نصف العالم الآسيوي الجديد» شملت هذه الأسس: العلم والتكنولوجيا، والتعليم، والجدارة والكفاءة الشخصية في الاختيارات، واقتصاد السوق الحرة، واحترام سيادة القانون، والبراغماتية بعيداً عن الجمود، وثقافة السلام. ويتجلى في هذه الأسس الدور المحوري لرأس المال البشري في مجتمع يستثمر فيه ويطوره ويصونه.
وترى اليوم أهمية أكبر في الاستثمار في البشر خصوصاً في ظل تحولات كبرى في عالمنا الذي وصفه هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، في حديث منذ أيام لصحيفة «الفاينانشيال تايمز»، بأنه يشهد «فترة شديدة الخطر». إذ نتابع تغيرات مباغتة متسارعة خصوصاً مع تواتر النزاعات بأنواعها، لن يكون آخرها النزاعات التجارية القائمة، وهو ما لا يُرجى أن تتطور لحروب تجارية شاملة تهدد الاستثمارات والدخول والنمو في اقتصاد عالمي أنهكته الأزمة المالية التي تفجرت منذ عشر سنوات. يتواكب هذا مع ما تأتي به التكنولوجيا ومستحدثاتها من منافع للمؤهلين لها، وما ستجلبه من عواقب خاصة على فرص العمل لمن لا يحسن الاستعداد لها تعلماً واكتساباً للمهارة.
فكما أنه يستحيل تصور تقدم في لعبة كرة القدم بالاكتفاء بتشييد الملاعب مع إهمال اللاعبين، فإن تقدم الأمم مرهون بالارتقاء بأحوال البشر. فمسيرة الدول التي تبنت نهج التقدم ونجحت في تحقيق وثبات مهمة على مدار العقود الماضية، كسنغافورة، تكشف عن أولوية تطوير رأس المال البشري، وعدم إهداره لحساب إنفاق عام استهلاكي غير مبرر، وإن ظهر محاسبياً أنه من باب الاستثمار فيه، أو لحساب إنفاق على رأس المال المادي لا يُواكبه اهتمام بمن سيعمرونه من بشر.
نقلا عن الشرق الآوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع