بقلم - داليا سعودي
حتى عشية مباراة ليفربول وريال مدريد، بدت قصة صعود نجم محمد صلاح أشبه بفيلم سينمائى مبهر الألوان ساحر الأجواء. تقاطرت فيه الجوائز والألقاب بوتيرة أسبوعية. وتكللت جهود بطلنا الصادقة بمشهد جائزة أحسن لاعب فى الدورى الإنجليزى الممتاز. وتناقل الجميع لقطة «مكة» الصغيرة التى أشاعت فى الملعب براءة وفرحا وهى تلهو بالكرة وسط تشجيع المدرجات المنتشية. حتى المنغصات التى ظهرت هنا وهناك كانت تبدو هى الأخرى مستلهمة من أفلام قصص النجاح، حيث الأشرار حفنة من الأشقياء والمبتزين ومحدودى الخيال، وحيث جماهير الحرافيش يسدون عين الشمس وينشدون لحن الوفاء لمن رأوا فيه قدوة الأخلاق واللعب المبدع النظيف.
ها هو الحلم قاب قوسين أو أدنى من التحقق. وأحلام المجتهدين لا تتحقق فرادى، بل هى تتوالى فى سلسلة من عطايا القدر السعيد على قدر التفانى وعلى قدر النية الصافية. فمن تأهل على رأس المنتخب المصرى لكأس العالم بعد انقطاع دام ثمانٍ وعشرين عاما، إلى تأهل مع نادى ليفربول لنهائى كأس أبطال أوروبا. وجه السعد يحصد السعد لنفسه ولمن حوله. لكن لكل مجد لابد من ضريبة، ومحصلوا تلك الضريبة هم أشباه سيرجيو راموس.
***
فى بعض فرق كرة القدم، هناك غالبا عشرة لاعبين محترمين ولاعب واحد يشبه راموس بقدر أو بآخر. إنه مسئول المهام القذرة، الذى لا يكتفى بالحد المسموح به من خشونة اللعبة، بل يتعداه باحترافية تمثيلية شديدة، تصبح الخشونة معها عنفا، والمماحكات تكسير عظام. لكن راموس يصنع ذلك بكثير من الخبث الذى يجيد خلط الهبالة بالشيطنة، ويغلف الطعنة فى غلالة من هدوء القتلة. لا يردعه عن تكرار صياعته كروت الطرد والإنذار التى احترف مراكمتها فى رصيده. ورصيده حافل بإنجازات شبيهة بالأذى الذى ألحقه بصلاح ليلة الأحد. فطوال سنوات راح راموس يحاول كسر ساق ميسى كلما التقاه فى مباراة. لم يسلم صاحب موهبة أو لاعب قاده حظه العسر إلى مواجهته من ركلة فى البطن أو قبضة مسددة بجبروت ماجن إلى الصدر أو الوجه. فى لقطة شهيرة يطرح راموس خصمه أرضا ويدهس صدره بحذائه متظاهرا بمطاردة الكرة. هو التظاهر ذاته الذى تحلى به وهو يعتقل ذراع صلاح تحت إبطه، ويحتجزها بكل ما أوتى من قوة، ليجرجره وراءه وقد أفقده التوازن، قبل أن يسقط بجثته الثقيلة على كتف صلاح، فى حركة لا نراها إلا فى مباريات المصارعة الحرة للمحترفين!.
ولعلكم مثلى تساءلتم فى اللحظات التى رأينا فيها صلاح ممدا على الأرض، غارقا فى ألمه، ثم خارجا من الملعب، غارقا فى دموعه، لماذا خلق الله راموس وأشباهه؟ أى حكمة فى وجود هؤلاء الكائنات الخبيثة التى احترفت سرقة الفرح، وإيذاء الموهوبين، وقطع الطريق على المجتهدين؟ لماذا كان سيرجيو راموس حجر عثرة على طريق محمد صلاح نحو حلمه الذى راوده واجتهد فى سبيل تحقيقه كل ذلك الاجتهاد؟ لماذا تغلب راموس الذى وصفه يورجن كلوب بالسرطان على صلاح المجتهد الخلوق ولم يجازَ ولم يحاسب؟ أين هى عدالة السماء؟ ولماذا يا رب كان الشر فى البرية؟ تلك بالطبع تساؤلات تخلو من شبهة الاعتراض على المشيئة الإلهية، وتتقبلها حلوها ومرها بتسليم إيمانى، لكنها تسعى لإعمال العقل فى التماس حكمة المقادير، والحكمة كما نعلم ضالة المؤمن.
***
أمعنت النظر فى المسألة، فوجدت أن محمد صلاح قد ربح من هذه الواقعة أكثر مما نتصور. ومقياس الربح والخسارة لن يكون محض عاطفيا، يستند إلى حجم التعاطف العالمى الطاغى الذى حظى به ابن مصر إثر هذه الإصابة التى خرج بمقتضاها من ملعب نهائى أبطال أوروبا. التعاطف مكسب كبير لكنه ليس الأهم بالتأكيد. فأهم منه هى المهابة التى اكتسبها صلاح بعد خروجه بهذه الطريقة. فها هو الريال مدريد الذى يسعى للقب للعام الثالث على التوالى يعلن بهذه الطريقة أنه يشك فى فوزه مع وجود صلاح بالملعب. صحيح أن حسابات العقل والخبرة ترجح كفة الريال فى مواجهة ليفربول، لكن خروج صلاح مصابا بهذه الطريقة الوحشية يشى بأنه كان مصدر القلق وصاحب المهابة.
أحسب أن الإصابة فى كتف صلاح لم تكن مجرد إصابة، بل كانت إعلانا عن قيمة محمد صلاح ووساما على صدره، منح إياه فى المباراة الأهم على مستوى أوروبا. فقد كشف خروجه المبكر عن حجم ثقله الحاسم، وعن مبلغ تأثر فريقه بغيابه، حتى أننا لا نبالغ لو عزونا إليه ارتباك حارس المرمى المتميز لوريس كاريوس ووقوعه فى خطأين قاتلين نتج عنهما هدفان للريال من حيث لا يحتسبون.
هذا وإن الضربة التى تلقاها صلاح تحمل مع وسام الجدارة تنبيها أنك يا محمد قد خطوت داخل دائرة الكبار الأضيق عند القمة، وعند القمة لا تتوقع إلا هذا المستوى من النزال. فكلما ارتفعت زادت قوة الضربات. كلما اقتربت زادت حدة نظرات رونالدو وتتابعت تصريحاته التى يصفك فيها بقصير القامة الذي لا يصلح أن يقارن به، أو يتطاوس فيها قائلا إن بطولة كأس أبطال أوروبا ينبغى أن تسمى باسمه لفوزه بها مع فريقه خمس مرات. هذا تطاوس الخائفين يا صلاح، فلا تحزن لأنك أنت المستقبل الذى يخافه رونالدو، ويراه يدنو من عرشه كل يوم بصورة تهدد سلطته.
وهذا التهديد. تعامل معه فريق الريال مدريد كوحدة واحدة، واستقتلوا فى مواجهته بروح ميكياڤيلية، تهدف إلى مراكمة الكؤوس أكثر مما تسعى لتجديد اللعبة، وتتمسك بذهنية الفوز رافعة شعار الغاية تبرر الوسيلة، حتى باتت لا يطرف لها جفن وهى تنازل خصومها وتحرس بوابات قلعتها الحصينة. إن مثل راموس يا صلاح كمثل حراس بوابة تلك القلعة المشيدة. تعلم بمرآهم أنك اقتربت، وتعلم بهجومهم أنك تأهلت، لكن عليك أن تتمسك بروح المقاتل التى عهدناها لديك. فأمثال راموس خلقهم الله لكى يبعثوا فى المقاتل أقوى ما فيه من صلابة وليشحذوا فيه روح المقاومة التى لا تظهرها أوقات الرخاء والمسالمة. ولا عليك من المشقة، فلحظة المشقة تفرز الناس، وتظهر معادنهم، و«لولا المشقة ساد الناس كلهم... الجود يفقر والإقدام قتال» كما قال المتنبى.
حفظك الله.. وراؤك شعب كامل يساندك وجماهير العرب والعالم يتطلعون لعودتك سالما متألقا فى كأس العالم فى روسيا بإذن الله.
المصدر : جريدة الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع