بقلم : داليا سعودي
فى أعقاب أى انتخابات رئاسية فى العالم، ثمة لحظة يقف فيها الرئيس المنتخب ليلقى خطابه الافتتاحى، مرتكزا فيه على فكرة محورية تتمثل فى رأب الصدع الذى أحدثه حوار مجتمعى صاخب استتبعته طبيعة الانتخابات التنافسية. هى لحظة يؤكد فيها الرئيس المنتخب ديمقراطيا أنه سيكون رئيسا لكل طوائف الشعب، من صوتوا له أو صوتوا ضده، أو امتنعوا عن التصويت لسبب أو لآخر. هى لحظة التعهد أمام الجميع بالسعى مع جميع أجهزة الدولة إلى تضميد الجراح وتوحيد الأمة وخدمة مصالح الجميع على حد سواء. وهو تعهدٌ يدخل فى ديباجة خطاب الفوز التطمينية تنتظره كل المجتمعات وتمهد له المنابر الإعلامية بل تشير إلى غيابه إن هو غاب. مثل هذا الخطاب هو أكثر ما نحتاج إليه اليوم، لاسيما أننا فى نسختنا المصرية من الانتخابات قد شهدنا موجة جديدة من سجال الاستقطاب المحموم على الرغم من انعدام أى مستوى للمنافسة أو لعله ناتجٌ عن غياب تلك المنافسة. نسختنا الجديدة من سجالنا الإقصائى تحررت من كلِّ إسار أخلاقى وانفلتت من كل ضابط عقلانى وعادت تدور بقوة فى جميع دوائرنا الخاصة منها والعامة، حتى باتت تقتضى وقفة حقيقية، تصدق فيها النوايا وتتسابق فيها الهمم لتهدئة حالة الصراع المجتمعى المزمن التى نعيشها فى مصر منذ سنوات.
***
لعل القارئ الكريم قد بدأ يستشعر طوباوية مطلبى فى هذا المقال، أو لعله الآن يتهكم من غفلتى عن أبعاد الصراع وعن حجم العوائق التى تزداد مَنعة وضخامة كل يوم. لكننى أزعم أننا لا نمتلك خيارا آخر، وأن المضى على الطريق نفسها بات مؤذنا بكارثة محققة تتجسد فيها مقولة صراع الكل ضد الكل، وتتماهى فيها حدود السلطة والتسلط والعنف على جميع المستويات.
فى ركاب الانتخابات، رأينا التلويح بتغريم الممتنعين غرامة مالية. رأينا بين نواب البرلمان من دعا لترحيل الممتنعين عن التصويت أو تجريدهم من جنسيتهم المصرية. رأينا ذلك المحافظ الذى لم يرَ حرجا فى سبِ الممتنعين علانية، ليخرج علينا بعد يومين مبررا تعديه بقوله إنه كان يشتم «أهل الشر»، لتتسع تلك التسمية الفضفاضة وتشمل كل من لم يمارس «الحق» الذى يكفله الدستور لكل مواطن بالمشاركة فى الاقتراع. وبالطبع رأينا الأداء الإعلامى المتهجم على كل من لم يشارك فى «العرس الانتخابى» لسبب أو لآخر. وطالعنا بكل صورة صيحات التخوين والتآمر ونزع الوطنية التى شملت كل من طالب أو تساءل أو تكاسل ناهيك عما أصاب كل من سولت له نفسُه الرفض أو الانتقاد أو التشكيك.
ومن الدوائر العامة إلى الدوائر الخاصة، انتقل الشقاق إلى البيوت، فارتدى صراعُ الأجيال حلة فاشية حولت كل عائلة إلى بؤرة شقاق، ودفعت العلاقات الأسرية إلى مستوى جديد من التردى، وبددت وهم الاستقرار الذى قيل إنه المطلب الأول للخروج فى هذه الانتخابات. فإذا ما أردنا استجلاء مبلغ تبدد السلام المجتمعى وتفاقم الكراهية فما علينا سوى القيام بجولة سريعة على شبكات التواصل الاجتماعى لنرى كيف تُستَلُ الأسلحة من أغمادها، وكيف يتطاعن المواطنون فى الشرف وفى العرض وفى الولاء لتراب هذا الوطن الحزين.
***
لا أتحدث اليوم عن ديمقراطية الصناديق، ولا عن أمنيات الحياة السياسية المنشودة، بل أتحدث عن أساسيات التلاحم المجتمعى التى من دونها سنستحق عن جدارة صفة «دولة الأشلاء». أتحدث عن العنف المتربص عند ناصية كل حوار عادى، المطل برأسه نتيجة لنفير التعبئة المنطلق من برامج الكلام الليلية، والمنفلت بخشونة من مزايدات الممسكين بزمام الأدوات القمعية. هذا العنف المجتمعى الذى لم يعد يتخفى تحت قفازات مخملية، بل راح يضرب فى مواطن الضعف ليقسم المقسم ويوسع خنادق الاحتراب، حتى أوشكنا أن نتحول داخل الوطن الواحد إلى جزر متفرقة شبيهة بدويلات الطوائف.
***
مثل هذا العنف المجتمعى أحلم بأن تخف وطأته الثقيلة فى بلادى. وهو ما لا يمكن أن يتحقق من دون إرادة سياسية حقيقية لفتح صفحة إنسانية جديدة مع الشعب. إرادة تخفف القبضة الحديدية وتفتح مسارات حقيقية لإزالة الاحتقان. لكن فى انتظار هذه الخطوة المأمولة، أدعو جميع الضمائر أن تتحرى مصلحة هذا الوطن، وجميع الألباب أن تتعقل، وجميع الألسنة أن تتعفف، علنا نأخذ هدنة لازمة للتفكير والمراجعة واستعادة الذات الوطنية المرهقة.
****
ختاما، لعل فى أحد المواقف التى مررتُ بها صورة لكيفية تعامل الشعوب الأخرى فيما بينها فى أوقات احتدام المنافسة الانتخابية. ففى اجتماع مع معارف جدد، فى أعقاب الانتخابات الفرنسية فى مايو 2007، سألتُ محدثتى الفرنسية عن المرشح الذى منحته صوتها، فابتسمت السيدة فى حرج ونظرت إلى والدتها وقالت، نحن عادة لا نناقش هذه الأمور حتى فى محيطنا العائلى. فكل منا يدلى باختياره فى الصندوق بمنتهى التكتم سدا لأى ذريعة للخلاف الجالب للشقاق. فالديمقراطية هى مناط سلامنا المجتمعى سواء فى البيت، أو فى العمل، أو فى الشارع. نستودعها أشواقنا، ونحافظ بفضلها على سلامة علاقاتنا. وابتسمتُ وأنا أطالع هذا النموذج. إذ تبين لى من خلال المحادثة أن الأم كانت تؤيد لوپن والابنة صوتت لماكرون. وها هما أمامى، تمد البنت يدها للأم لتساعدها على النهوض وهما تتبادلان الابتسامات فى عذوبة وانسجام.
نقلاً عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع