بقلم-داليا سعودي
استشهدت أول مرة فى غرة شهر يونيو، شرقى خان يونس بغزة، وهى تمارس عملها كمسعفة متطوعة. قتلها قناصٌ إسرائيلى غادر، لم يعبأ بكونها فتاة، ولا بأعوامها الغضة، ولا بمعطفها الطبى الأبيض المحرم دوليا استهداف مرتديه، ولم تثنه رؤية ذراعيْها المرفوعتيْن إشهارا لاستسلامها وسلميتها. وهى التى لم تكن تحمل سلاحا، بل حتى لم تكن تحمل هاتفا، فقد كانت قد باعت هاتفها مع خاتمها الوحيد لشراء مستلزماتٍ لإسعاف جرحى مسيرات العودة. لكن تلك لم تكن المرة الوحيدة التى قُتلت فيها. إذ أعقبت تصفية الجسد اغتيالات معنوية أخرى لعلها لا تقل بشاعة. الملاحظ أن تلك الفكرة التى بزغت فى رأسى وأنا أطالع التعامل الإعلامى والدبلوماسى مع مقتل رزان، وجدتُها تتردد بأقلام مفكرين وكتاب يهود من المحسوبين على التيار المعارض للفكر الرائج فيما يعرف بالإعلام الرئيسى ( Mainstream Media). قرأتُ مقالاتهم فوجدتهم يرددون بقوة فكرة الاغتيال المعنوى لأسباب تتركز حول التناول الإعلامى لهذه الجريمة. وفى منهجى المتبع فى هذه المقالة، آثرتُ البدء بعرض رؤاهم لتلك الفكرة قبل أن أطرح رؤيتى لها.
****
المقالة الأولى التى استرعت انتباهى نشرها الكاتب الإسرائيلى جدعون ليڤى فى صحيفة هاآرتس بتاريخ 10 يونيو، تحت عنوان: «بعد أن قتلت إسرائيل رزان النجار ها هى تغتالها معنويا». وهى مقالة تتبع نفس الخط النقدى الذى عُرف به الكاتب والذى يسائل بقوة الممارسات غير الأخلاقية التى عُرف بها جيش الاحتلال الإسرائيلى. ففيما كتب، يهاجم ليڤى «البروباجندا» التى عمد إليها المتحدث باسم الجيش الإسرائيلى، ويفند المقطع المصور المزيف الذى استند إليه، والذى عمد فيه صانعوه إلى فبركة حوار أجرى مع رزان قبيل استشهادها لإظهارها وكأنها تدعى أنها درع بشرى تستغلها حماس. فحتى بعد أن قتلوها، ها هم يستكثرون عليها لقب «ملاك الرحمة»، ويعمدون إلى تزييف الحقيقة لتشويه ذكراها مثلما دأبوا مع كل ضحاياهم.
تلك الدعاية الكاذبة، كما يوضح ليڤى فى مقالته، ما هى إلا ظاهرةٌ يتناسب اتساعها فى أى دولة تناسبا طرديا مع فشل السياسات بها، فهى تنمو وتترعرع حيثما استشرى الفساد. لكنها فى إسرائيل دعاية ساقطة متهافتة بحسب الكاتب، إذ لا يراها تصلح لشدة عوارها إلا للاستهلاك المحلى، لأن العالم بات أكثر وعيا فى التعامل معها. وهى ككل دعاية قومية فاسدة تقوم على القمع النفسى والإنكار والتعامى عن الاعتراف بأجلى الحقائق.
***
أما الأكاديمى والمحلل السياسى الأمريكى اليهودى نورمان فنكلشتاين، فهو لا يحسب كما جدعون ليڤى أن تلك الدعاية الإسرائيلية حكرٌ على السوق الإعلامية المحلية، بل يراها تُستغل بالأساس لتبييض وجه الاحتلال أمام العالم. ففى مقالة نشرها على مدونته بتاريخ 10 يونيو، تحت عنوان: «صحيفة نيويورك تايمز تغتال رزان النجار مرة ثانية»، يشن فنكلشتاين هجوما على الصحيفة الأمريكية لعرضها المقطع المصور المزيف ولاعتمادها قصة صحفية تلوى عنق الحقائق وتوحى بتأييد الرواية الإسرائيلية وتغتال ذكرى الشهيدة بتوجيه سهام الشكوك إلى نواياها.
أما الكاتبة الإسرائيلية «عميرة هاس» التى تعد من أهم المدافعين عن حقوق الشعب الفلسطينى، فوجهت مقالها للقاتل، لذلك المجند فى جيش الاحتلال الصهيونى الذى رصد وسدد وقتل. فبدت وكأنها تحاصره بالأسئلة لتتفحص لحظة الاغتيال الحقيقى قبل المعنوى: «ألم ترَ الحجاب على رأسها لتدرك أنها امرأة؟ هل تملى عليكم قواعدكم العسكرية استهدافَ أفراد الطواقم الطبية؟ وهل تطلقون النار على الرجال والنساء منهم على حد سواء؟ وهل تقتضى ضوابط الاشتباك فتح النيران حين تكون الضحية على مسافة أكبر من 100 متر من السور الحدودى كما حدث معها؟ هل كنت تقصد أن تصوب بندقيتك نحو قدميها وأخطأت الهدف لأنك فاشل؟ هل تشعر بالأسف؟ هل تنام مرتاح الضمير ليلا؟ هل أخبرتَ صديقتك أنك أنت من قتلتَ فتاة فى مثل عمرها؟ هل كانت رزان أولى ضحاياك؟».
***
هكذا تشترك تلك المقالات الثلاث فى تناول فكرة المزاوجة بين الاغتيال الحقيقى والاغتيال المعنوى عبر إطار إعلامى يعتمد أساسا على الدعاية الرسمية المروجة للأكاذيب. لكن من زاويتى، أرى أن الاغتيال المعنوى الأكبر الذى تعرضت له رزان النجار كان ذا طابع دبلوماسى سياسى، ووقع فى مجلس الأمن فى اليوم نفسه الذى تم فيه تشييع جنازتها المهيبة فى خان يونس. فما من انتهاك للشهداء الفلسطينيين أكبر وأشد وطأة من الڤيتو الأمريكى الذى استهدفت به واشنطن مشروعَ قرار حماية الشعب الفلسطينى المقدم من قبل دولة الكويت أمام مجلس الأمن. وما من اغتيال معنوى للمدنيين العزل أكبر من الحماية الحصرية التى توفرها الولايات المتحدة للدولة الصهيونية. تُظهر الصور الجهد المكوكى للمندوبة الأمريكية لدى الأمم المتحدة لفرض قرارها المضاد على بقية أعضاء المجلس. لكنها بقيت وحيدة فى دعمه، معزولة بين دول العالم، فى سابقة لم تحدث لقرار من قبل. لم تؤيدها فيه حتى بريطانيا، التى عمدت مندوبتها كارين پيرس إلى الهجوم على الضحية لتبرئة ساحة إسرائيل من جميع الجرائم، وإلقاء اللوم على أهل غزة وعلى «الجهاد الإسلاموى» الذى يهدد بحسبها ما يصرون على تسميته بـ«عملية السلام»!
***
وبعد، فقد استشهدت رزان النجار مرات ومرات حينما ران صمتٌ عربى مريب على الساحة، صمتٌ مدوٍ لفرط دبيب خذلانه، لم يكد يقطعه سوى صوت مندوب دولة الكويت لدى الأمم المتحدة السفير منصور العتيبى، معلقا على فشل العالم فى توفير حماية دولية للشعب الفلسطينى، مرددا التساؤلات نفسها التى وجهها أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح فى كلمته أمام الدورة الاستثنائية السابعة لمؤتمر القمة الإسلامى المنعقد بإسطنبول فى مايو الماضى:
لماذا تستمر معاناة الشعب الفلسطينى؟.. لماذا نتجاهل ولا ننفذ قرارات مجلس الأمن؟.. لماذا يقف المجتمع الدولى عاجزا عن حل هذه القضية؟.. لماذا تتمكن إسرائيل من الإفلات من العقاب؟.. لماذا تزهق كل هذه الأرواح وتراق كل هذه الدماء أمام الصمت المطبق للضمير العالمى؟
الإجابات معروفة للجميع، وكلها قد تؤدى فى حالات أخرى إلى تجذر مشاعر اليأس والهوان. لكنها فى الحالة الفلسطينية تفجر بئرا من ماء الحياة، مهما تناوبت على أبنائه الاغتيالات الحقيقية والمعنوية. فبعد ارتقاء ملاك الرحمة إلى بارئها بأيام، ارتدت الأم معطف ابنتها المخضب بالدماء، وخرجت لتدعم الفريق الطبى استكمالا لرسالة ابنتها المناضلة من أجل حق العودة.
***
على جدار الفصل العنصرى، ستبقى صورة الشهيدة رزان النجار باسمة، ملهمة، مفعمة بالحياة، بل ستبقى أكبر من الحياة، برمزيتها المتدثرة بمعطفها الطبى الأبيض. لا نعلم كم سيبقى هذا الجدار العازل قائما، ولا نعلم كم من جداريات الشهداء سيحمل، لكننا نعلم أن حق العائد لا يضيع ما بقى فى صدر هذا الشعب الأبيى قلبٌ نابض.
نقلا عن الشروق
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع