تخوض تركيا منذ 20/1/2018 هجوماً عسكرياً متواصلاً ضد منطقة عفرين السوريّة الكرديّة، شمال غربي حلب، التي ظلّت آمنة وسط الحريق السوري وملاذاً لما يقارب نصف مليون مواطن سوري من خارجها هاربٍ من جحيم الحرب في حلب وريفها والمناطق المجاورة، الأمر الذي يزيد من تعقيد الأزمة السورية بعوامل ومعطيات جديدة. وهذا من دون سماع صوت احتجاج عالمي ضد العدوان العسكري المستمر على عفرين منذ ما يزيد عن الخمسين يوماً.
أسفرت الحملة التركية حتى الآن عن تفريغ غالبية قرى المنطقة (حوالى 400 قرية)، ومقتل وجرح المئات من المدنيين وبينهم أطفال ونساء وكهول، وتدمير كلّي أو جزئيّ للكثير من البلدات والقرى والبنى التحتية ومواقع أثرية مهمة، وأزمة إنسانية خانقة مع تركز كثافة سكانية كبيرة جداً في عفرين - المدينة تفوق طاقتها على الاستيعاب، لا سيما مع الحصار الخانق الذي تفرضه القوات المهاجمة على المدينة والذي يوشك أن يكون كاملاً وقطعها المياه عنها، بعد التقدم السريع الذي حققته في الأسبوع الفائت بعد انهيار الدفاعات الأمامية والتحصينات القوية للقوات المدافعة في المرتفعات والتلال في محيط المنطقة، إثر القصف المكثف جواً وبراً والتقنية العالية لدى القوات المهاجمة.
ما هو لافت أن هناك صمتاً دولياً تاماً إزاء العدوان التركي على عفرين. فاللاعبان الأساسيان في سورية، الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، يتصارعان على كسب تركيا، بتقديم ورقة الأكراد جائزة كبرى لها. وهو السبب الجوهري في هذا الصمت الدولي. فالولايات المتحدة في طور تحسين علاقتها مع تركيا، الحليف التاريخي والقوي في حلف الأطلسي (الناتو)، وروسيا تعمل على كسبها في صراعها مع الغرب والناتو ومن أجل أجنداتها في سورية.
وكانت تركيا قد خطت خطوات عملية مهمة في سورية تمكنت معها من حجز موقع مهم لها، بعد أن كانت مهددة بالحرمان من هذا الدور.
وعبر المصالحات التي عقدتها الحكومة التركية مع دول مختلفة (مع روســـيا وإسرائيل في وقت متـــقارب من 2016، وألمـــانيا أواخــر 2017، والولايـــات المـــتحدة والنــــاتو من خلال الدخول على خط «محاربة» داعش ابتداء من صــيف 2016 في جرابلس، ولاحقاً مع دول عربية) تمكنت تركيا من تحسين موقعها في الأزمة السورية.
تبدو الدولة التركية مدللة عالمياً في عدوانها المدمّر على عفرين، فلم يصدر أيّ موقف حكومي غربي ضد هذا العدوان، سوى نقد حذر جداً من فرنسا، مرفق بتفهم «حقّ» تركيا في الدفاع عن أمنها القومي، ولم تستطيع فرنسا المضي بهذا الموقف الخجول إلى مبادرة بسبب الموقف الأميركي أساساً، المؤيد للعدوان فعلياً، وموقف شقيقتها الأوروبية الكبرى، ألمانيا، الصامتة حتى اللحظة عن العدوان.
وعلى رغم أن الحملة التركية تخرق القانون الدولي بوضوح بالعدوان على أراضي دولة مجاورة، ولا تستطيع تركيا تقديم أي إثبات حقيقي على مزاعم تهديد أمنها القومي من قبل الوحدات الكردية السورية التي تجنّبت بقرار مركزي أي استفزاز عسكري– أمني للجانب التركيّ. هذا في الوقت الذي تعاونت تركيا مع شبكات المقاتلين الجهاديين من أصقاع العالم وسهّلت مرورهم للأراضي السورية وتغاضت عن جيرة الوحش المسمى «داعش» على حدودها الجنوبية لثلاث سنوات...
على رغم كل هذا تتجنب حتى هيئات الأمم المتحدة ذكر حملة تركيا على عفرين عند الحديث عن سورية، وبعض المنظمات الحقوقية المستقلة العريقة تنتقد وبلغة حذرة للغاية بعض التداعيات الإنسانية للحملة التركية على عفرين، وهي حتى هنا تكاد أن تضع مسؤولية مقتل مدنييّن في عفرين جرّاء الضربات التركية على... الضحايا أنفسهم.
والحكومة التركية ترد بعنف على أي نقد من الخارج، مهما كان بسيطاً، يطال سياستها في العملية العدوانية المسماة «غصن الزيتون». أما في الداخل التركي فإن تغريدة على التويتر قد تذهب بصاحبها إلى السجن. بعد أن جعل الرئيس التركي أردوغان قضية عفرين قضية وطنية عظمى، وكأن هناك حربا عالمية تخاض ضد تركيا، فيما هي من يخوض عدواناً عسكرياً مدمراً ضد منطقة صغيرة جداً خارج حدودها، وسط تعاون وصمت دوليين تامين!
أما المقاتلون الكرد الذين لطالما مدحتهم واشنطن وموسكو وباريس وبرلين في السنوات القليلة الماضية، كمقاتلين أشدّاء «يقاتلون داعش نيابة عنا وعن العالم الحرّ كله»، فباتوا وحدهم في مواجهة الآلة العسكرية التركية الغاشمة بموافقة وتنسيق أو غض نظر من تلك العواصم نفسها.
لا ندري ما إذا كان الموقف الدولي سيتغيّر بعد تنفيذ تركيا المرحلة الأساسية لحملتها، وهي احتلال منطقة حزام أمنيّ يطوّق منطقة عفرين بالكامل، سيما وأن هناك كارثة إنسانية محتّمة فيما لو قرّر الجيش التركي وحلفاءه اجتياح المدينة المكتظّة بما يقارب ثلاثة أرباع مليون إنسان أو الاستمرار في حصارها، لكن المؤكد أن تركيا في حملتها العسكرية على عفرين تبدو مدلَّلة العالم. فالجميع يتفهّم «حقّها» في قتل الأكراد. وعفرين التي تدفع ضريبة كرديّتها في هذا العدوان التركي عليها، لا بد أن تدفع أيضاً ضريبة سوريّتها. وفي سورية المستباحة، القتل أمر عادي جداً ولم تعد الصور المفزعة تثير غضباً كبيراً، و»يحقّ» لأي طرف دولي قوي أن يختار عدوّه ويفتك به من دون أن يبدو عمله اعتداء على السيادة المنقوصة للدولة أو انتهاكاً لحقوق الإنسان.
عفرين كرديّة، مقابل تركيا المدلَّلة، وعفرين سوريّة، في بلد المجزرة المفتوحة منذ سبع سنوات، فلماذا نستغرب الصمت إذاً؟
نقلا عن الحياة اللندنية