بقلم : د. صائب عريقات
فلسطين الوطن، الأرض والشعب، وهذا التلاحم التاريخي بينهما هو الذي صنع الهوية الوطنية الفلسطينية. ولكي ينجح المشروع الاستيطاني الاستعماري في اغتصاب الأرض، كان لا بد له أن يفكّ تلاحمها مع الشعب، وأن يمحو الهوية، ويقصي الوجود المادي، ويسيطر على الحيز المكاني، وينتهي بمحو الرواية وحيز الذاكرة الفلسطينية. الصراع إذن لم يكن على الأرض فحسب، وإنما على كينونة الشعب وهويته ووجوده الوطني أيضاً، وبالتالي حقه في تقرير المصير على هذه الأرض. لكن وجود شعبنا وصموده على أرضه شكّل السدّ المنيع الذي اصطدم به تيار هذا النظام الاستعماري و«الأبارتايد».
بدأ الصراع على الأرض منذ العهد العثماني، عندما أقيمت المستوطنات اليهودية الأولى على أرض فلسطين، لكنه اتخذ منحى جديداً وخطيراً منذ وعد بلفور الذي أعطى للحركة الصهيونية حقاً في تحويل ملكية الأرض إلى مشروع سياسي، قوامه إقامة «وطن قومي» لكل يهود العالم على أرض فلسطين، واعتبار سكانها أقليات وطوائف دينية لا تشكل شعباً، وليس لها سوى حقوق مدنية ودينية.
هذه هي الركيزة التي قام عليها المشروع الصهيوني تحت رعاية الانتداب البريطاني، حيث استغلت التطورات التي جرت بين الحربين العالميتين وخلالهما من أجل تشجيع الهجرة اليهودية، وتمكينها من انتزاع الأرض بكل الوسائل غير المشروعة. وعندما اكتمل نموّ هذه الدولة التي لم تكن تمتلك سوى 6 في المائة من أراضي فلسطين، شنّت حرباً عدوانية تمكنت خلالها من احتلال 78 في المائة من الأرض، ومارست عملية تطهير عرقي لاقتلاع أكثر من نصف السكان الفلسطينيين، وطردهم قسراً من ديارهم الأصلية، بالتزامن مع سن القوانين العنصرية، كقانون «العودة» و«أملاك الغائبين» وغيرهما، وواصلت صراعاً محموماً من أجل السيطرة على أراضي الفلسطينيين المقتلعين من أرضهم، وكذلك الفلسطينيين الأصلانيين الذين تشبثوا بجذورهم، وواصلو وجودهم التاريخي على هذه الأرض رغم الاحتلال، والذين تضاءلت ملكيتهم للأرض من 90 في المائة إلى نحو 3 في المائة.
هذا الصراع على الأرض بقي متواصلاً حتى وجد لحظة انفجاره في 30 مارس (آذار) 1976، عندما اندلعت انتفاضة فلسطينيي 1948 ضد إجراءات إسرائيل الهادفة إلى السطو على الأرض الفلسطينية، ولكن هذه الانتفاضة لم تقتصر على هذا الجزء الغالي من شعبنا في أراضي 1948، بل كانت الشرارة لإعادة طرح قضية الأرض والهوية التي توحد من أجلها شعبنا الفلسطيني بأسره في الضفة الفلسطينية، بما فيها القدس وقطاع غزة، كما في بلدان المنافي، لتصبح عامل تعزيز واستنهاض متجدد للهوية الوطنية الموحدة والمتميزة لشعبنا وهو يناضل من أجل تقرير المصير. جاء هذا اليوم كسراً وتحدياً لسياسة الترهيب والإرهاب الإسرائيلية الممتدة منذ نكبة عام 1948، وليوحد جميع القوى الفلسطينية في مجابهة مصادرة الأرض والحقوق، والانتقال إلى مرحلة أخرى من النضال ضد نظام التمييز العنصري.
منذ ذلك الوقت والمؤسسة الإسرائيلية تستشرس في تصعيد العنصرية ضد المواطنين الفلسطينيين في الداخل، وسلب الأرض، وهدم البيوت، ليس فقط بقوة الجرافة، وإنما بقوة القانون، في أم الحيران والعراقيب والجليل وغيرها، وتدمير القرى، وفرض نظام عنصري يجعل من الفلسطينيين داخل الخط الأخضر مواطنين من الدرجة الثانية، وينكر عليهم حقهم في المساواة القومية. وقد امتدت هذه السياسة لتشمل الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، بضم القدس وتوسيع المستوطنات وفرض نظام «الأبارتايد» على السكان الفلسطينيين، الذي أصبح اليوم سنة معلنة لدولة إسرائيل، من خلال إقرار «قانون القومية» العنصري الذي يعتبر فلسطين كلها وطناً قومياً تاريخياً لليهود، ويحصر حق تقرير المصير في البلاد لهم وحدهم، وينفي صفة الشعب والوجود الوطني الفلسطيني.
هذا الإفصاح عن الأهداف الحقيقية للمشروع الاستعماري، وركيزته الأساسية في نزع صفة الشعب عن شعبنا الفلسطيني، لم يكن ممكناً لولا الدعم الذي تلقته أوساط اليمين الإسرائيلي المتطرف من جانب الولايات المتحدة، خصوصاً إبان حكم إدارة ترمب التي تبنّت الركيزة نفسها عندما فرضت مفهوم السلام بالقوة، وأغلقت ممثلية منظمة التحرير في واشنطن، وأغلقت قنصليتها في القدس، وأسقطت قضية القدس واللاجئين وغيرها، إمعاناً في تجاهل وجود الشعب الفلسطيني، وبنت سياستها على الاعتراف بالوقائع غير الشرعية التي فرضتها إسرائيل بحكم الاحتلال والقوة العسكرية على أرض فلسطين، وكذلك على أرض دول عربية أخرى، كالجولان السورية.
إن جوهر هذه السياسة الإسرائيلية - الأميركية يكمن في تحدي الإرادة الدولية لإرساء السلام في المنطقة على أساس حل الدولتين، وفي تقويض إمكانيات تجسيد سيادة فلسطين على أرضها، إلا أن هذا المشروع، رغم الوقائع التي يفرضها بالقوة على الأرض، هو مشروع يتعاكس مع مجرى التاريخ، فالشعب الفلسطيني بكل مكوناته في فلسطين المحتلة، وفي أراضي 1948، وفي المنافي ومخيمات اللجوء، يزداد توحداً في الدفاع عن مصيره الوطني بسبب هذه السياسة العدوانية التي تحرم جميع هذه المكونات من حقوقها المشروعة والمعترف بها دولياً، فهي تسلب فلسطينيي 48 من حقهم في المساواة القومية كمواطنين على أرضهم، وتسلب فلسطينيي الـ67 من حقهم في الاستقلال والسيادة على أرضهم، وتسلب فلسطينيي المنافي واللاجئين عموماً حقهم في العودة إلى ديارهم، و«يوم الأرض» بات المناسبة التي يعبر فيها كل الفلسطينيين عن إصرارهم على التمسك بهذه الحقوق، وفتح الطريق أمام تمتعهم بحق تقرير مصيرهم، كشعب تتميز هويته بالالتحام مع هذه الأرض.
ولشعب أيضاً امتهن الإبداع في خلق الوسائل والابتكارات للتعبير عن رفضه السلمي لهذه السياسات، انطلقت مسيرات العودة ليس في أراضي 48 فحسب، بل وفي قطاع غزة المحاصر، إحياء لذكرى «يوم الأرض» الخالد، ومن أجل الدفاع عن حقه الطبيعي والقانوني والإنساني في العودة، وإنهاء الاحتلال والاستقلال.
إن الوحدة في الهوية والمصير هي الوقود الذي يمكّن شعبنا من الاستمرار في صموده ومقاومته، ولكن ترسيخ الصمود يتطلب ترجمة هذه الوحدة المصيرية إلى وحدة وطنية بين مختلف مكونات هذا الشعب وأطيافه وقواه، على أساس المشروع الوطني الواحد، بقيادة منظمة التحرير، كما وحدته في «يوم الأرض» الخالد عام 1976.
فلسطين في قديمها وحاضرها ومستقبلها لن تخسر معركة، ومشهد اللاجئين المُحمّلين بالشاحنات إلى المنافي لن يتكرر، فجذورنا امتدت في هذه الأرض إلى أعمق مما يستطيع الاحتلال اقتلاعه. «يوم الأرض» هو ليس ذكرى فقط، وصناع «يوم الأرض» بالأمس واليوم وغداً يسيرون في كل أماكن وجودهم بمسيرة متواصلة لن تكلّ أو تتوقف حتى تحقيق الحرية والعدالة.
- أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير
نقلا عن الشرق الاوسط
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع