بقلم - بكر عويضة
قبل واحد وستين عاماً من هذا اليوم، تسلق أحد شبان غزة سارية العلم بمبنى حكومي، فنزع علم هيئة الأمم المتحدة الأزرق، ورفع مكانه علم مصر. تلقى الشاب محمد علي المشرف رصاصة أطلقها جندي يتبع قوات الطوارئ الدولية، فأردته قتيلاً. نهار أطلق على ذلك الشاب اسم «شهيد العلم»، أتى بعد أسبوع من اندحار قوات إسرائيل عن قطاع غزة يوم السابع من مارس (آذار) 1957، بعد احتلاله (1/11/1956) خلال حرب السويس. كنت ابن عشرٍ من العمر، وكُتِب لي أن أرقب ذلك المشهد، إذ أشارك الجموع مسيرات غضب اجتاح القطاع ضد طرح مشروع التدويل. أمس (الثلاثاء) يُفترض أنه جرى عقد اجتماع دولي في البيت الأبيض لبحث سبل تحسين الوضع الإنساني في غزة. زعامات الفصائل الفلسطينية، التي تفصل خلافات عدة بعضها عن بعضٍ، التقت على رفض الاجتماع. لافت هذا الإجماع. يبقى الأمل أن تُجمع تلك الزعامات على تنفيذ ما تتفق عليه بعد كل مصالحة، وأن تلتقي على ما يجمع الفلسطينيين فتنبذ ما يفرّق بينها، حتى لا يبقى بؤس الحال المُعاش لأغلب الناس على ما هو عليه، بل إنه، في الواقع، يزداد من سيئ لأسوأ منذ بدأ الفساد يعشش داخل رؤوس أفراد متنفذين في السلطة الفلسطينية، ثم انتعش فراح ينهش أوصال حلم الدولة المشروع قبل أن تقوم لها قائمة بالفعل.
لم يحدث أبداً، أن كانت عروبة غزة موضع بحث أو نقاش بين أهل القطاع عموماً. النقيض تماماً هو الأصح. ذلك أن خصوصية علاقة غزة مع مصر كانت لها، دائماً، مكانتها المتميزة. ومثلما أن معبر رفح هو بوابة مصر، براً، إلى المشرق العربي، هو أيضاً باب الغزيين إلى مشارق الأرض ومغاربها. ضمن هذا السياق، بدا من الطبيعي أن تقوى علاقات النسب والمصاهرة، وأن تقوّي بدورها أواصر التواصل بين الناس، وهو ما أوصل بدوره إلى ازدهار التعامل التجاري لما فيه منافع تشمل الجميع. حتى كارثة هزيمة 5/6/1967، كان وضع علاقة غزة، القطاع والناس، مع مصر، وكذلك علاقة مصر، الدولة والبشر، مع غزة، أقرب إلى المثالي. قبل فجيعة الاحتلال الإسرائيلي، وفرت أسواق غزة ما يشبه المتنفس للمصريين أمام وضع اقتصادي صعب فرض ضرورة التشدد في استيراد البضائع، فيما كانت غزة تبدو بمثابة سوق حرة. وكان الوصول إلى أي من جامعات مصر، أول حلم يداعب كل طالب غزاوي بمجرد دخول المرحلة الثانوية. لم يكن العبور إلى القاهرة، زمنذاك، أقرب للمستحيل، كما هو الحال الآن. إنما، لماذا تبدّل الوضع؟ لِمَ حل الريب داخل دوائر الأمن المصري، محل يقين الثقة بأن ما يجمع شعب مصر مع أهل غزة، أهم وأكثر مما يفرق بينهما؟
سؤال تقع مسؤولية الإجابة عنه على كاهل قيادات الفصائل الفلسطينية، خصوصاً حركة «حماس»، وحركة «الجهاد الإسلامي»، وبشكل أكثر تحديداً على عاتق قادة عسكريين في الحركتين. واضح أنه لو لم يجرِ اعتماد سياسات حفر الأنفاق، ثم استخدامها لاحقاً في تهريب السلاح، أي فيما هو أبعد من مجرد التغلب على متاعب حصار إسرائيلي ظالم وحاقد، لما كان هناك ما يبرر تشديد إغلاق معبر رفح على نحو راح يتصاعد قبل تسلم «حماس» الحكم في غزة، واشتد أكثر بعده.
هل من الإجحاف بحق قيادات فصائل الفلسطينيين على اختلاف توجهاتها، وتعدد ولاءاتها، وتنوّع عقائدها، القول إنها تتحمل نصيبها من المسؤولية إزاء معاناة قطاع غزة؟ الأرجح أن الإجابة هي كلا. لكن الإنصاف يقتضي القول، أيضاً، إنها ليست سواء. ليس يصح أن يوضع على المسطرة ذاتها مسؤول فلسطيني «مقاوِم»، «ممانع»، «مجاهد» ويقيم في دارة فارهة بعاصمة عربية تضم قاعات لتمارين الرشاقة، مع مسؤول من الفصيل ذاته، مثلاً، لكنه يقيم بين الناس في غزة، ويعاني معاناتهم، حتى لو توفر له بعض ما ليس يتوفر لغيره. ثم، أما آن وقت تخلي بعض الساسة الفلسطينيين عن كلام مكرر ليس فقط أضاع تكراره الجدوى منه، بل فقد اقتناع معظم الناس به، مثل تبرير رفض اقتراح البيت الأبيض مناقشة تحسين وضع غزة، بزعم أنه ضمن مخطط «تصفية القضية»؟ لست أدري، إنما الأرجح، أن استسهال التصريح بكلام ناري سوف يظل هو السائد إلى أجل غير معلوم.
نقلا عن الشرق الاوسط