أعاد حفل توزيع جوائز أوسكار قبل أسبوع إلى ذاكرتي ومضات رائعة من الحنين إلى الماضي، حين كان الاستقرار والأمان يهيمنان على الحياة في دمشق، رغم الانقلابات التي سرت شرارتها منذ بدأها حسني الزعيم، وجرى مثلها في تلك الآونة في بلدان عربية أخرى. يومئذ، كانت السينما جزءا لا يتجزأ من حياة الناس، والمتعة شبه الوحيدة للتسرية عنهم في أوقات فراغهم بعد انتهاء التزامات العمل.
كانت السينما تقدم لمجتمع الطبقة الوسطى عالما من الأحلام، سواء من خلال الأفلام العاطفية/ الرومانسية/ الاجتماعية، أم عبر أفلام الفروسية والمبارزات، أم أفلام الوسترن الحافلة بركوب الخيل وإطلاق النار، أم الأفلام البوليسية التي تبعث الإثارة في النفس، أم الأفلام الكوميدية التي تطلق موجات ضحك هستيرية لدى الجمهور، أم الأفلام التاريخية التي تخلد أبطال الماضي وتستخلص العبر من أحداثه، أم أفلام الميوزيكال التي تحفل بالموسيقى والغناء والرقص.
قبل سنوات عديدة، التقيت بسيدة دبلوماسية أفغانية الأصل في حفل عشاء. ما زلت حتى اليوم، بعد مرور حوالي ربع قرن من الزمن على ذلك اللقاء، أتذكر جيدا كيف روت لي تلك السيدة أن كابل كانت في يوم من الأيام تكنى باسم "باريس الشرق"، وأن السينما كانت جزءا أساسيا من تقاليد الحياة الاجتماعية فيها، بحيث يتردد إليها الرجال والنساء في ذروة أناقتهم بشكل منتظم كل أسبوع، ويحرصون على متابعة كل ما هو جديد في العالم من خلالها. قالت لي تلك السيدة الأفغانية بأسى: "لا أدري كيف انحسر ذلك التقليد من حياة الناس، وكيف تحولت كابل إلى ما هي عليه الآن! اختفت دور السينما من الحياة الاجتماعية فيها، وأصبح النادر مما يوجد منها يقدم أسوأ النماذج من السينما الهابطة، ولا تتردد إليها العائلات الراقية أبدا".
يومها، راعتني المقارنة بين واقع السينما في كابل وواقعها في دمشق، إذ كانت الظاهرة نفسها تفعل فعلها في مدينتي العريقة ثقافيا! بمعجزة، استعادت السينما ألقها الاجتماعي في دمشق بعد أفول وانحسار في القرن الحادي والعشرين، وعادت السينما تجذب جمهورا راقيا يتردد إليها في قمة أناقته، وصارت الأفلام في دمشق تفتتح مع نيويورك ولوس أنجلوس ولندن وباريس.
قبل عقود عديدة من الزمن، أتذكر المتعة التي كان أبي يضفيها على بيتنا في حقبة الخمسينيات ونحن أطفال صغار بروايته لقصص الأفلام، بحيث لم تكن تقل روعة عن متعة التردد على دور السينما. لم يكن التلفزيون قد دخل البيوت بعد، وكانت الكهرباء تنقطع أحيانا لنكمل السهرة على ضوء الشموع أو مصباح الكاز أو "اللوكس"، دون أن تنقص متعة الحكايات، خاصة في أمسيات الشتاء الباردة حين كنا نتجمع قرب مدفأة الحطب ونشوي عليها حبات الكستناء. كانت رواية أبي للفيلم الواحد تستغرق مدة تماثل طول الفيلم نفسه، إن لم تزده طولا، وكانت ذاكرته البصرية مدهشة في قدرتها على استعادة تفاصيل السيناريو، سمات الشخصيات، زوايا اللقطات، بل حتى أجزاء كاملة من الحوار كان يحفظها عن ظهر قلب. كان ذلك استثنائيا بسبب كون أبي رساما ماهرا، وعازفا بارعا على العود والكمان، وقارئا نهما للأدب.
اقرأ للكاتب أيضا: هل الديموقراطية أم الشمولية مستقبل العالم؟
استغرقني الأمر زمنا طويلا حتى أتيح لي أن أرى بعض تلك الأفلام التي كان يرويها لنا أبي في سن الطفولة، والتي حفظت تفاصيلها كأنني شاهدتها بالفعل قبل أن أحضر بعض تلك الأفلام خلال مرحلتين لاحقتين من حياتي: الأولى في عامي 1987 ـ 1988 حين أقمت كباحث فولبرايت في سان فرانسيسكو، والثانية في عام 2013 حين أتيت لأعمل في جامعة "نورث وسترن" في إيفنستون إلى الشمال من شيكاغو.
بالأمس القريب، عرضت أحد تلك الأفلام لطلابي في "قسم السينما" في الجامعة المذكورة، وفوجئت بأن أيا منهم لم يشاهده من قبل، رغم بثه أحيانا عبر بعض قنوات التلفزيون. كان فيلم "شمالا إلى آلاسكا" للمخرج هنري هاثاواي، من بطولة جون وين وستيوارت غرانجر وكابوسين، وهو فيلم وسترن كوميدي/اجتماعي أكثر مما هو فيلم يحفل بمطاردات الخيول ولعلعة الرصاص، لكنه ما زال حتى الآن يحتفظ بالكثير من قدرته على الإمتاع بسبب حبكته الاجتماعية الطريفة.
في الواقع، كان أبي يتسم بذوق واسع الطيف، شرطه الوحيد هو الاتقان. لم يكن يحبذ نوعا على نوع، ولم يكن ينفر من أي طراز من الأفلام إذا أحسنت صناعته. المهم أن يتمتع بالجودة في القصة والسيناريو والحوار والإخراج والتمثيل. روى لنا أبي مثلا بإعجاب "الديكتاتور" من بطولة وإخراج تشارلي تشابلن، و"الدوامة" من بطولة جيمس ستيوارت وكيم نوفاك وإخراج ألفريد هتشكوك، "شرقي عدن" من بطولة جيمس دين وإخراج إيليا كازان. كما روى أبي لنا ونحن أطفال أفلام "الفرسان الثلاثة" من بطولة جين كيلي، "الإقناع بالود" من بطولة غاري كوبر، "السماء تعلم، يا مستر أليسون" من بطولة ديبورا كار وروبرت ميتشوم، "زواج على الطريقة الإيطالية" من بطولة صوفيا لورين ومارسيللو ماستروياني، "الغروب الأخير" من بطولة كيرك دوغلاس وروك هدسون، "المصباح الغازي" من بطولة إنغريد برغمان وتشارلز بواييه وجوزيف كوتن، "الأمير والراقصة" من إخراج لورنس أوليفييه وبطولته مع مارلين مونرو، "ثلوج كليمنجارو" من بطولة غريغوري بك وإيفا غاردنر وسوزان هيوارد، "صيف ودخان" من بطولة جيرالدين بيج ولورنس هارفي.
لم يكن أبي يحفظ أسماء جميع المخرجين، لكنه كان يردد أسماء تشارلي تشابلن، فكتور فلمنغ، كينغ فيدور، سيسيل ب. دو ميل، ديفيد لين، إيليا كازان، ألفريد هتشكوك، أورسون ولز، جون فورد، بيلي وايلدر، وليام وايلر وفيتوريو دو سيكا. بالرغم من اختلاف أفلام هؤلاء المخرجين وتنوع مواضيعها وأنماطها، وبعد مرور قرابة نحو ستين سنة على إنتاج معظمها، ما زالت تعتبر من روائع السينما، وبقيت تثير إعجاب الأجيال لتؤكد أن الخلود هو السمة المميزة لكل فن عظيم. تذكرت هذه العناوين عقب حفل الأوسكار للعام 2018، وأدعو كل عاشق للسينما إلى مشاهدة ما فاته من تلك الروائع.
اقرأ للكاتب أيضا: قمر يوجين أونيل يشع على المحرومين
شرع أبي ذات يوم بتسجيل تلخيص وتحليل لكل فيلم نشاهده في دفتر سميك اقتناه لهذا الغرض. سرعان ما شجعني أن أقلده وأدون قصة وتقييم بعض أفلام المغامرات التي تعجبني في الدفتر نفسه. صرنا نبحث معا عن إعلانات الفيلم الذي نكتب عنه في المجلات، فنقصها ونلصقها إلى جانب المقال المكتوب بخط اليد. ما لبثت أختي أن انضمت إلينا قبل أن نتوقف عن متابعة هذه الهواية عندما انشغلنا بدراستنا. لكن "دفتر السينما" ذي الغلاف القرمزي بقي موجودا كذكرى لتلك السنين الغابرة. منذ ذلك الزمن المبكر، تعلمت من أبي مبدأ مفاده ألا أضيع وقتي ووقت الآخرين في تناول عمل رديء بالنقد. بالتالي، أن أتجنب الكتابة عن أي فيلم لا ينال قدرا من احترامي وإعجابي، فلم أتناول أفلاما متدنية المستوى بهدف تفنيدها وشتمها، لأن هدفي من الكتابة هو التحليل للإبداع الفني، وترغيب القارئ/المشاهد بمشاهدته.
يدل شغف أبي بالطيف الواسع والمتنوع للسينما على طابع الديموقراطية السائد آنذاك في المجتمع السوري، وعلى الذوق التواق للمعرفة لدى شريحة واسعة من الجمهور في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، حين كانت السينما في أوج ازدهارها وشعبيتها في دمشق، قبل أن ينحسر طقس السينما ليقتصر على ما لا يزيد عن صالتين، بينما اتجهت بقية الصالات الشعبية لتعرض أفلاما رديئة، من الغريب والصادم أن الدولة كانت المستورد الحصري لها، بحيث جعلت الناس يحنون حنينا جارفا إلى ذلك الزمان الجميل مثل حنين السيدة الأفغانية لأيام ازدهار الثقافة والفنون في كابل حين كانت "باريس الشرق" قبل أن يلحقها التطرف والإرهاب، ويدمرها العنف والكراهية.
نقلا عن موقع قناه الحره الامريكيه