بقلم - د. يسرى عبدالله
إن أمة منكوبة لن تكون أتعس حالا من أن يتخلى مثقفوها عن دورهم التاريخى فى مواجهة القتلة والتكفيريين، فالثقافة التى تسعى كى تخلق عالما أفضل، يبدو حضورها داخل مجرى الحياة اليومية للمصريين بائسا للغاية، والوزارة المعنية بالشأن الثقافى بمعناه المباشر لا تملك أية قدرة على التأثير فى الناس وتبصيرهم بواقعهم، والمشاركة الفاعلة فى تحرير وعيهم، وتخليصه من قيود التجريم للتفكير، والامتثال لخطابات التطرف التى تحيط بنا من كل جانب.
إن افتقاد التفكير العلمي، وغياب النسق المعرفى فى إدارة الثقافة، والانفصال عن اللحظة، والتعامل معها بروح الموظف التقنى وليس بروح المثقف المنتمى إلى ناسه وأمته، وإلى مفاهيم التنوع الإنسانى الخلاق، يبدو الآن، فمحصول الكثيرين من مسئولى الثقافة من الجدل السياسى والثقافى يبدو ضئيلا، ومن ثم تبدو الدولة المصرية فى واد، ووزارة ثقافتها فى واد آخر، فى مفارقة مؤسفة.
إن الذين يعرفون نصف المعرفة ليسوا بأفضل حالا ممن يجهلون، فكلاهما خارج اللحظة والتاريخ، ومن المضحكات المبكيات أن تجد صراخا يوميا يطالب بحتمية المواجهة الشاملة مع الإرهاب، دون أن يشير ولو بكلمة واحدة، إلى الحال البائس الذى تعانيه مؤسسات صناعة العقل العام فى مصر، من الثقافة إلى التعليم إلى الجامعات إلى الإعلام إلى المؤسسات الدينية، وبما يعنى أن البعض لم يزل يرى فى الرطان الفارغ حلا، وفى الصراخ والمزايدة طريقا، ومن المؤسف أيضا أن تتوجه الانتقادات وتتمركز حول القلب الصلب للدولة المصرية بمؤسساتها الوطنية التى تدافع عن شرف الأمة ووجودها الفعلى بالمعنى الحقيقى وليس المجازى فحسب.
إن المثقف بوصفه صوتا لناسه وأمته، ونموذجا للتمثيل المعرفى والإبداعى لطبقته الاجتماعية، يجب عليه أن يعى دوره جيدا الآن، فالتضحيات الهائلة التى يقدمها جنودنا البواسل، والدماء الزكية التى تحمى أرضنا، يجب أن تكون ملهمة للمسئولين عن الثقافة الذين يجب أن يمتلكوا خطابا متماسكا يتصل بمعنى الثقافة ودورها المركزى فى متن المعركة التى تخوضها الأمة المصرية الآن ضد قوى التطرف والإرهاب، وتصورات واضحة عن آليات جديدة تناهض ثقافة الركون، والخضوع النفسى للماضى تحت وطأة التفسيرات الجاهزة للنصوص، والفهم المغلوط للتراث الديني.
يجب أن تجلس وزيرة الثقافة الفنانة المستنيرة د. إيناس عبد الدايم مع قيادات وزارتها ومرءوسيها وتطرح سؤالا واحدا، ماذا يمكننا أن نصنع لجعل الثقافة قيمة مضافة إلى متن الدولة المصرية؟ هذا السؤال الذى يفضى إلى تساؤل أعم عن آليات استعادة القوة الناعمة المصرية وبحث أسباب تراجعها وإخفاقاتها فى الاستجابة الثقافية الخلاقة لتعقدات اللحظة الراهنة المصرية والعربية وتشابكاتها.
إن البداية إذن ستكمن فى امتلاك سياسات ثقافية محددة المعالم، وقابلة للتطبيق، فالإغراق فى رطان لا يتحقق عن الإصلاح المؤسسى للوزارة والهيكلة المقننة لن يفضى إلى شيء ملموس الآن، أما الطابع الإجرائى فعين ما تحتاجه الوزارة الآن للخروج من أزمتها ومواجهة تحديات وطن يحمل امتدادا معرفيا وحضاريا هائلا، ولحظة مسكونة بالتحولات والأخطار المختلفة.
إن الثقافة انحياز للمعني، وإعلاء مستمر لقيم التقدم ولكل المدلولات الوطنية والإنسانية الخالدة، ومن ثم فإنه يجب تفعيل آليات المراجعة النقدية المستمرة ومساءلة قطاعات الوزارة المختلفة، وعدم تداخل اختصاصاتها، سواء فى الطبيعة أو الدور الثقافى أو النشر أوآليات العمل داخل المحيط الاجتماعي، وكلها مسائل مهمة يجب أن تكون حاضرة فى وعى القائمين على أمر الوزارة ومؤسساتها المختلفة.
فى البدء تكون الخطة إذن، فى البدء يكون النسق، أما الحراك الثقافى الفعلى فليس بالأمر العسير، فالبنية المادية للثقافة المصرية جيدة للغاية، والحديث المتواتر عن تقليص الاعتمادات المالية ليس سوى شكل من أشكال الهروب من المسئولية التاريخية الراهنة الملقاة على عاتق الوزارة، فالتجهيزات التى نجدها فى الأبنية الرسمية للثقافة سواء فى دار الأوبرا المصرية أو فى الهيئة العامة للكتاب بفروعها المختلفة أو قصور الثقافة وبيوتها المنتشرة فى ربوع المحروسة، أو المجلس الأعلى للثقافة الغائب عن تشكيل العقل العام، قد تفتقدها دول أكثر غنى وتقدما.
لكن المشكلة الحقيقية تكمن فى غياب الخيال الجديد القادر على صنع الثقافة بمعناها المتجدد الذى لا يرى فيها خطابا استعلائيا على الجماهير، ولا يخضع أيضا لشروط السوق الاستهلاكى ويمتثل لتصوراته الشعبوية. وبعد.. تلكأت الوزارة كثيرا فى الدخول فى المعركة، كان يجب أن تستنفر كل قواها فى المواجهة ضد الأفكار المتطرفة، لكنها ارتضت بالمكوث فى المنطقة الآمنة، لكنها وهى تفعل ذلك نسيت أن الثقافة خط الدفاع الأخير عن الهوية الوطنية، عن ناسنا فى القرى والنجوع، عن جماهير شعبنا، أما الأدهى فقد تمثل فى انحيازها للا معني، ففقدت البوصلة والتأثير والغاية.
نقلا عن الاهرام القاهرية