بقلم : نهلة الشهال
الشابة من قرية الرينة الصغيرة قرب الناصرة، وعضو في «التجمع الوطني الديموقراطي»، وتكتب الشعر، وشعرها يتحدث عن فلسطين والفلسطينيين. وهي شاركت على صفحتها على فايسبوك تغريدة تقول «أنا الشهيد اللي جايه». محاميتها تقول إنها مشاركة حدثت في 2014، على إثر استشهاد محمد أبو خضير ابن الـ16 سنة الذي اختطف من القدس على يد مستوطنين وقتل حرقاً، وهي واقعة هزت المشاعر في حينها... بينما اعتبرت المحكمة التي تنظر في قضيتها أنها نشرت التغريدة في خريف 2015، في وقت انتفاضة السكاكين التي استشهد فيها 199 فلسطينياً. وهناك فارق كبير بنظر المحكمة بين التاريخين، لأن الأول ينتمي إلى التأثر فيما الثاني ينتمي إلى التحريض!
صحيح أن الاعتداد بالانفعال أسهل من التمسك بالوعي، وهي حجة يختارها الدفاع القانوني لتيسير التبرئة من الموقف العمد، كما أن القضاء الإسرائيلي يأخذها في الاعتبار. وقد قيل في حالة الصبية عهد التميمي أنها صفعت الجندي لما رأت ابن عمها مردياً برصاصة في الرأس. كما قيلت هنا في الدفاع عن الشاعرة.
المهم: جاءت الشرطة إلى منزل دارين واعتقلتها عند الفجر في أحد أيام تشرين الأول (أكتوبر) 2015 بتهمة أنها تهدد بالقيام بعملية انتحارية، بدليل تلك التغريدة. وإسرائيل تتبجح بتطوير خوارزميات (ألغوريتم) تراقب بواسطتها كل ما يكتب على فايسبوك وكل ما يقال على الهواتف المحمولة (وغير المحمولة) لملايين البشر (الفلسطينيين)، وتترصد النوايا فتبطل الفعل الشرير قبل وقوعه. وهذه البرامج المعلوماتية المعقدة تقدم للعالم كله في معارض التكنولوجيا والأسلحة الدولية كأدوات فعالة لإحباط الإرهاب، وتبيعها تل أبيب للراغبين بوصفها «حجر الحياة». وقد رصد أحدها كلمات دارين طاطور ونبه التقني الذي فهمها بعد أن ترجمها إلى العبرية وإلى خانات القراءة في عقله كإعلان عن عملية إرهابية وشيكة.
في التحقيق، بينت الشاعرة قصدها وقالت إنها تعتبر كل فلسطيني مرشحاً للموت، وذكرت أبو خضير وذكرت أيضاً الشابة إسراء عابد من الناصرة التي أطلق عليها النار في محطة العفولة حين دست يدها في حقيبتها، وقصصاً أخرى لا يفتقر إليها واقع الحال. راجع المحققون أمرهم وطلبوا خبراء في الترجمة وتبينوا خطأهم، لكنهم عوض الإفراج عن دارين قرروا إثبات صحة نظريتهم، فمددوا إيقافها وأمروا بالبحث في كل صفحات موقعها حتى يجدوا الدليل. ووجدوا فعلاً صوراً لإسراء ولأبو خضير وغيرهما، فاعتبروها تحرض على العنف. وهي كانت ألقت قصيدة بصوتها تقول فيها «انتفضوا أبناء شعبي انتفضوا» وأخرى تقول «قاوم يا شعبي قاومهم»، وهي تضع تلك القصائد بما يصاحب مشاهد عن العنف الإسرائيلي أو عن الحياة اليومية الشاقة للفلسطينيين. وبعد ثلاثة أشهر في المعتقل تقرر إطلاق سراحها وحبسها في منزلها مع سوار إلكتروني على كاحلها، ومنعها من استخدام الإنترنت وذلك بانتظار الانتهاء من محاكمتها. ثم خففت بعد سنة وثمانية أشهر شروط إقامتها الجبرية وصار بإمكانها الخروج نهاراً لساعات من المنزل وإنما برفقة حراس متطوعين مسؤولين عنها أمام السلطات. وما زال هذا وضعها. وهي «اعترفت» أثناء جلسات المحاكمة بقصائدها.
وقد تشكلت هيئة من كتاب وشعراء عالميين لنصرة دارين طاطور، وتبنت قضيتها منظمة «القلم» العالمية، وكذلك يواكب موقع +972 الإسرائيلي جلسات محاكماتها المتنقلة من محكمة إلى أخرى، وينشر تقارير تبين خراقة ما يجري لها، و «أطرفها» أن هناك خبراء ومختصين في اللغة والأدب العربي وآخرين في اللغة والأدب العبري يتناولون في جلسات محاكمة طاطور، وبالشروح المطولة، معاني الكلمات والصور الشعرية ومحمولاتها، وما قد يصح في ترجمتها أو لا يصح.
وفي آخر جلسة قررت القاضية تفحص «وقائع جديدة» للاتهام، مقدّمة خطياً ومؤلفة من عشرات الصفحات ومنها ما هو نقل لحوارات دارت في مختلف جلسات المحاكمات، وأعلنت أنها تنتظر رد هيئة الدفاع عليها، ما يتيح تمديد الإقامة الجبرية لطاطور أشهراً جديدة، يضاف إليها العطل القضائية والتأجيلات المتكررة.
الحبكة الكافكاوية لمحاكمة دارين طاطور التي يبدو أنها بلا نهاية، في الوقت نفسه الذي اتضح فيه افتقادها لأي أساس «جرمي»، ليست استثناء قد يبرره العناد وحالة «العزة بالإثم» حيال خطأ لا رغبة بالتراجع عنه. بل هو الارتباك المصاحب للترتيبات التي تخص اعتماد قوانين «يهودية» الدولة الإسرائيلية، وبالتالي استحالة تمتع من هم من غير اليهود بحقوق متساوية مع هؤلاء، حتى لو كانوا إسرائيليين.
ويذهب ذلك إلى أبعاد غريبة، كإعلان وزيرة الثقافة الإسرائيلية، ميري ريجيف، أنها لن تتساهل مع من يظهرون «عدم الولاء» لإسرائيل سواء كانوا عرباً أو يهوداً، ما يعني منع أي معارضة. وهي قطعت مساعدات مخصصة للنشاطات الثقافية عن لائحة طويلة ممن اعتبرتهم يندرجون في هذه الفئة، فتوقف مسرح الميدان في حيفا، كما سُحبت عشرات الكتب من التداول. وهناك اليوم حملة على «مسرح يافا» (الذي يستقبل فرقاً عربية وعبرية) لأنه احتضن احتفالاً تضامنياً مع طاطور.
وليس لهذا المنحى حدود. فأخيراً خرجت قصة الصبي محمد التميمي إلى التداول والسخرية. فقد وصفت مواقع عدة لإسرائيليين بـ «الأورويلي» (نسبة لجورج أورويل صاحب «مزرعة الحيوانات» و «1984») الادعاء الإسرائيلي بأن التشوه في رأس الصبي وفقدانه لثلث دماغه قد تسبب به وقوعه عن دراجته الهوائية ليلاً، بينما هو مثبت في محاضر طبية أن رصاصة مطاطية أصابته واستخرجت من دماغه. وقيل في مواقع أخرى أن «محمد التميمي هو الصبي الفلسطيني الوحيد الذي أنكر أنه رمى حجارة على الجنود وصدّقه المحقق الإسرائيلي». ولعله يمكن اعتبار الصبية المعتقلة عهد التميمي وابن عمها محمد محظوظين إذ لم يكن مصيرهما القتل بدم بارد كما يحدث كل يوم.
ولكن وفي الوقت نفسه، فالمنحى إياه هو بمعنى ما «إجباري»، فهو يجسد ليس فحسب مصير الفلسطينيين بكل فئاتهم الواقعين تحت العسف الإسرائيلي، بل مآل دولة إسرائيل نفسها التي لا يمكنها الجمع بين «ديموقراطيتها» ويهوديتها، وبين «تحضّرها» واستعماريتها.
نقلاً عن الحياه اللندنية