بقلم : ولاء مصطفى
لقد رأيت الله مرة واحدة قبل وفاة والدى، المشهد سار كالآتى، طفلة صغيرة تمسك بيد رجُل أربعينى، ينظر إلى الأفق دون تردد، يده معى وعيناه فى فُلك آخر. داخل سيارة صغيرة تكفى بالكاد مشوارا نذهب إليه أنا وأبى نحو السماء، مرّت دقائق حتى انقلبت السيارة، صرخت وسألت الجميع «ماذا أفعل؟»، فأجابوا «الله وحده هو من سينقذه»، فبادرت بسؤال آخر «أين هو؟»، صمتوا جميعًا ثم أشاروا بأصابعهم نحو هالة كبيرة من النور، بكيت حينها بشدّة وكأن العالم سينتهى، إذ ذهب أبى نحو السماء وتركنى وحيدة.
هُنا، بعيدًا عن السماء بآلاف الكيلومترات، أكتب إليك والدى العزيز، تحية طيّبة من ابنتك وحفيدك الذى لم تره، سأخبرك عمّا حدث فى رسالة طويلة، ولكن دعنى أقل لكَ رسالة عُمرها أكثر من 8 سنوات، مُنذ رحلت وتركتنى هُنا أفتقدك كثيرًا وأشتاق لرؤياك، وبالطبع أتمنى رؤيتك أنا وحفيدك، لكننى مطمئنة لأن الله ينظر إليك بدلاً منّا، ينظر إليك بعين رحمة ومغفرة.
دعنى أخبرك أيضًا أن الجدار الذى كُنت أستند إليه، منذ كُنت طفلة صغيرة لم تحل ضفائرها بعد، انكسر تمامًا بعد ذهابك، كُنت أنت قدوتى الأولى فى الحياة، أعطيتنى حبًا وملأتنى بالعطاء والحنان، ورغم كُل الحب، لم تنس أن تعلمنى حُب الحياة وكيفية العيش بها، أحكى عنك لحفيدك سليم فى كل ليلة، أخبره أنك رجُل طيب القلب، عزيز النفس، وعفيف اللسان، لا يجرح أحداً بكلمة، ولكن مهما قُلت، ما فى قلبى لك أكبر من الوفاء بالحديث عنك.
أبى العزيز فتاتك المدللة تغير بها الحال قلبًا وقالبًا، أصبحت أُمّاً، لستُ عظيمة على الإطلاق، لكنى فى النهاية أُم، أجلس هنا بجانبى طفل جميل، جزء صغير منى حملته 9 أشهر، مرَّت تلك الأيام، كانت صعبة متقلبة مثل شهور السنة، كُنت أرى الصيف والخريف فى يوم واحد، ولكن بعد الولادة، تحديدًا عندما رأيت طفلى وحملته بقلبى قبل يدى، شعرتُ بأن الربيع أتى، وطغى بجماله على حياتى، مثلما فعل سليم. صحيح أننى لا أجد وقتا كافيا للجلوس معه بسبب ضغوط العمل والمشوار اليومى من الهرم إلى جاردن سيتى، الكُل يجرى هنا.
أخبرتك بالأشياء السعيدة، ولكن هُناك شعوراً بالشجن لا يُفارقنى، انقلبت حياتنا جميعًا بوفاتك، العالم هُنا أصبح مخيفا ومظلما، كُنت شعاع النور الذى ينير حياتنا، كشفت الأيام لنا عن وجهها القبيح بعد رحيلك، الكُل يريد سرقة حقوقنا، نعم.. أخذوا ما لا حق لهم فيه، ولكن أمى، زوجتك رضا، خبأت الغصّة التى احتلت قلبها، وساعدتنا على النهوض مرة أخرى، ولكن كل فرحة فى بيتنا لا تمُر هكذا، بل تمتزج بدموع ساخنة، لم تبرد بعد 8 سنوات.
مُتشحين بطيفك، نجلس سويًا أول يوم العيد، لنتذكر عندما كنت تأتى فجرًا لتوقظنا على هداياك، وكأنّك بابا نويل، ولكن الفرق بينك وبين بابا نويل، الفطائر الطازجة التى كُنت تحملها وتأتى بها إلى المنزل، حتى لا تأكل بدوننا. أعلم أن رسالتى إليك طويلة، وقد تكون مُملة، لكن دعنى أخبرك بكلمة أخيرة، لعلّها تصل إلى السماء أيضًا.
يا أبى، يا مصطفى، أحاول أن أبقى كما تركتنى، يعلم الله أننى لا أحمل ذرة حقد أو حسد، لا أعلم لماذا يرانى البعض شريرة وكأننى أسوأ ما أنجبت الحياة، لكن لدى بعض الأصدقاء يرون طيبة قلبى دون حجَاب، الحياة لا ترحم أحدًا، كبرت يا مصطفى وأصبحت أدور داخل دائرة لا تنتهى، الحياة هُنا ثقيلة، أخاف التوهان بين الدروب، وحينما يجرفنى التيار بعيدًا أتذكر أن لدى طفلا صغيرا، يُمسك ملابسى أثناء نومه، يخاف ابتعادى عنه، وأخاف أنا على مصيره، كى لا يُصبح يتيما مثلى، أتذكر كُل هذا فأذهب إلى أقرب شباك يرسل إليك رسالتى.. محبتى لك من هُنا.
نقلًا عن المصري اليوم القاهرية