بقلم : مجدي شندي
النيل حياة مصر، ولذلك ينسب المفكر الراحل جمال حمدان كل شيء فيها إلى النيل حتى في خضوع المصري للحاكم، قائلاً: «الحقيقة الأولى في الوجود المصري هي النيل». والنيل هو ضابط إيقاع الحياة في مصر.
ولأن النيل أكبر من نهر ويكاد يوازي الحياة، آمن المحتل البريطاني دوماً بأن «من يتحكم بالنيل يتحكم في مصر». لذلك كان أول انتقام منها بعد استقلالها عن بريطانيا في 28 شباط (فبراير) 1922 تشييد سد سنار على النيل الأزرق في السودان عام 1925، وما تزال محاولات الانتقام والتحكم بمصر متوالية عبر العصور، من خلال إنشاء سدود تحجز جريان النهر.
تشيع على نطاق واسع مقولة «مصر هبة النيل» لهيرودوت الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، ويعتبر أبا التاريخ في الحضارة الغربية. ويكاد يكون هناك إجماع بين كتاب ومؤرخي كل العصور على أنه شريان حضارة الإنسان الأولى وسليل الفراديس.
وعلى امتداد التاريخ تعودت مصر على «الابتزاز المائي» وهي تحاول حيناً تفادي الغضب، وفي أحيان ترد بتهديد ووعيد، ففي العام 1680 هدد حاكم إثيوبيا الملك تقلا حيمنوت نظيره حاكم مصر عثمان باشا بالقول: «نهر النيل سيكون كافياً لعقابكم حيث وضع الإله منبعه وخبراته في قبضتنا ويمكننا إلحاق الضرر بكم».
وفي أعقاب حادث اغتيال السير ستانلي ستاك حاكم عام السودان 1924، واتساقاً مع قناعتها بـ «أن من يتحكم بالنيل يتحكم بمصر»، هددت بريطانيا بعدم إمداد مصر بمياه نهر النيل. وبعد تأميم قناة السويس ورفض البنك الدولي إقراض مصر لتمويل السد العالي، سارت أميركا على خطى بريطانيا، واخترع هارمون، المهندس الأميركي» مبدأ أن «الأسبق جغرافياً هو الأحق، وأن دولة المنبع صاحبة سيادة مطلقة على مواردها الطبيعية ومنها المياه». وذلك مقابل مبدأ أن «الأسبق انتفاعاً هو الأحق لأنه صاحب الحق المكتسب»، وذلك لحصار مصر التي كانت تناقض سياستها في ذلك الحين. بل وصل الأمر إلى قيام مكتب الاستصلاح الأميركي بمسح تفصيلي قدمه إلى الحكومة الإثيوبية ونشر نتائجه في 17 مجلداً عام 1963 وتضمّن اقتراحاً بإنشاء 33 مشروعاً لتوفير المياه للري وتوليد الكهرباء.
وظل الأمر محل نزاع صامت يثير الأفكار والمشاعر في دول حوض النيل، كانت تغذيه وتعقده «عوامل تاريخية أقحمت مياه النيل في التنازع الاستراتيجي وجعلت التفكير في استخدامها سلاحاً سياسياً وارداً»، على نحو ما يقول رئيس وزراء السودان السابق الصادق المهدي في كتابه «مياه النيل... الوعد والوعيد».
ظلت مصر منذ جلاء البريطانيين عنها، وطوال عهود عبد الناصر والسادات ومبارك، تعتبر مياه النهر من المحرمات التي لا يجوز الاقتراب منها، وإلا فأنها الحرب، وخلال قمة أفريقية عقدت عام 1993 عرض رئيس الوزراء الإثيوبي مليس زيناوي على الرئيس الإريتري أسياس أفورقي أن يعرض ملف مياه النيل على القمة، فنصحه أفورقي بعدم الإقدام على هذه الخطوة لأنه ليس وقتها. ويروي أفورقي ما حدث ليلتها قائلاً: «في مساء يوم الاجتماعات وجدت زيناوي غاضباً، وحين سألته عن سبب غضبه قال: اقترحت على مسؤول مصري أن إثيوبيا ستعرض ملف النيل خلال الاجتماعات فردّ قائلاً: مَن أنت؟». ويضيف أفورقي: «بعد أن روى زيناوي ما حدث، هدّد أمامي بمعاقبة المصريين، وقال: سأفعل ما فعله الأتراك بسورية والعراق».
في ذلك الحين لم يكن بمقدور إثيوبيا فعل شيء، لكنها ظلت رابضة تتحين الفرص، حتى انشغلت مصر بملف «توريث الحكم»، فبدأ حراك إثيوبي لتوقيع «اتفاقية عنتيبي» التي بدأت بلجان تفاوضية في كانون الثاني (يناير) 2006 وانتهت باجتماع شرم الشيخ الفاشل في نيسان (أبريل) 2010 وحدث توقيع منفرد لدول المنبع عليها في أيار (مايو) 2010. أما دولتا المصب (مصر والسودان) فلم توقعا لخلاف حول نقاط رئيسية، أهمها الاتفاقيات القديمة القائمة (خاصة 1959).
وكان أن حدث زلزال 25 كانون الثاني 2011 في مصر وانشغلت القاهرة به عما يدور خارج حدودها، فحلّت اللحظة التي يمكن أن ينفذ فيها تهديد مليس زيناوي، وشرعت إثيوبيا في الإجراءات الفعلية لما تحول من مخطط فوعيد إلى فعل، فتمّ وضع حجر أساس سد النهضة في 2 نيسان 2011، وفرضه كأمر واقع على رغم عواقبه الوخيمة على مصر.
تم توقيع اتفاق مبدئي بين زعماء مصر وإثيوبيا والسودان في 23 آذار (مارس) 2015، وينص على احترام مصالح كل طرف وتشكيل لجنة ثلاثية ولجان فنية، وفوجئ المصريون بشريكهم في المصير وقد تغيّرت مواقفه لحسابات سياسية ضيقة. ومع ذلك تحاول القاهرة تجنب «خيار عسكري» قد تجد نفسها صبيحة يوم مضطرة له ضمن معادلة البقاء أو الفناء.
نقلًا عن الشروق القاهرية