فى بداية عملى بهيئة الإذاعة البريطانية (بى بى سى) عام 2005، التحقت مع غيرى من الموظفين الجدد بورشة تدريب، كان الهدف منها تعريفنا بالأقسام المختلفة، وخطوات صناعة المحتوى، وآلية التعامل مع أنظمة البث، وإمكانات البحث، وغيرها.
فى جزء من هذه الورشة المطولة كان علينا أن نتعلم كيفية استدعاء المعلومات من أرشيف (بى بى سى)، وحين جاء وقت التجربة اختار عدد من الصحفيين المصريين- وأنا منهم- أن نستخرج ما تحتفظ به ذاكرة (بى بى سى) عن العلاقة بين مصر وإسرائيل عبر التاريخ، وما إن ضغطنا على زر البحث، حتى هالنا ما رأينا.
كان أرشيف (بى بى سى) يصف حرب 1973 بـ«هزيمة المصريين أمام الجيش الإسرائيلى».. راجعنا موضوعات أخرى تعالج نفس الملف من زوايا مختلفة، فلم نجد غير هذا الوصف المخالف للحقيقة، بشأن حرب يدرك العالم كله أن مصر خرجت منها منتصرة، وأن إسرائيل خرجت منها ذليلة!.
نصحنا الزملاء القدامى بتقديم شكوى رسمية عبر مسارات إدارية وقانونية تحددها لوائح المؤسسة، وبعد أن تحقق المسؤول من صحة الواقعة، تم التصويب، وعوقب المحرر المضلل الذى لم نتفاجأ حين علمنا فيما بعد أنه يهودى!.
خلاصة الدرس الذى تعلمناه منذ أيامنا الأولى فى (بى بى سى) أن الخطأ وارد، لكن النظام الصارم فى المؤسسة يضمن التصويب الفورى، وإدانة المخطئين.
ولكى تدرك مدى صرامة هذا النظام، يكفى أن تعلم أن غالبية الوجوه التى كشفت عن انحيازاتها الفكرية والسياسية على قناة الجزيرة خلال السنوات الأخيرة، خرجت من عباءة (بى بى سى)، لكنها لم تكن تجرؤ على أن تتفوه بكلمة خارج النص خلف أو أمام الميكروفون خلال عملها فى هيئة الإذاعة البريطانية.. كنا نشم فى بعضهم رائحة الإخوان، لكن سياسة الثواب والعقاب كانت تقمع أى نية لديهم للتأثير على الأخبار أو توجيهها، كما أن الجو المهنى العام كان يفرض سطوته دائماً!.
وعلى مدار خمس سنوات هى عمر رحلتى فى (بى بى سى)، خاض المعتدلون من صحفيى القسم العربى- وهم أغلبية- معارك مهنية عدة مع الإدارة الإنجليزية للمؤسسة، ربما كان أشدها معركة غزة عام 2009، حين اتخذ المدير العام قراراً بمنع بث إعلانات التبرع للفلسطينيين خلال وأثناء الاجتياح الإسرائيلى للقطاع، مما دفع صحفيى (بى بى سى) للتهديد بالإضراب، وتسبب فى احتجاج بعض أفراد الجمهور أمام مبنى المؤسسة فى إجتون هاوس وقذفه بالحجارة.
كنا نعلم أن هناك تيارا داخل (بى بى سى) يسعى لتمرير أفكار وسياسات تخدم مصالح دول كبرى، على حساب القواعد التى تتبناها (بى بى سى)، منذ عقود، لكن الأمر لم يكن يتطلب منا سوى اليقظة، وعمق النظر، والتسلح بالمهنية، والروح القتالية من أجل الحفاظ على هيئة الإذاعة البريطانية، كنموذج إيجابى ينبغى أن يستمر!.
لذلك أرى أن تجريم ومقاطعة (بى بى سى) فى مصر سيقضيان على جبهة وطنية نحتاج إليها داخل وسيلة إعلامية مؤثرة فى الغرب، تضم صحفيين وطنيين مخلصين للمهنة وقادرين على تطهير المؤسسة من الداخل.. أعلم مقدار الصدمة التى أصابت زملاءنا فى مكتب (بى بى سى) العربية بالقاهرة بعد إذاعة الوثائق المغرضة للمراسلة (أورلا جيورين).. وأنتظر من المسؤولين العقلاء فى المؤسسة إجراءات توضيحية للسلطات فى مصر، لعدم معاقبة الصحفيين المصريين فى القاهرة ولندن بجريرة عمل يعلمون جيداً مدى حماقته، وتجاوزه لكل أصول المهنة.
أثق بأن بإمكان مكتب القاهرة مدعوماً بالصحفيين المصريين فى لندن- إنتاج فيلم وثائقى آخر يصف الوضع فى مصر بتوازن وحياد، مستوفياً كل الأبعاد والزوايا والمصادر، لكن مثل هذا العمل لن ينجح دون تشجيع من السلطات المصرية، وعلى رأسها الهيئة العامة للاستعلامات.
علينا أن نفتح حواراً مع المهنيين فى كل الوسائل الإعلامية الدولية.. نحن بحاجة إلى اعتدالهم ونزاهتهم وخبراتهم.. إننى أختلف مع الذين ينادون بمقاطعة خصومنا فى الإعلام.. لو نجحت المقاطعة فى السابق ما استمرت الحرب الإعلامية حتى الآن.. ولو كانت المقاطعة سلاحاً رادعاً، لكانت الجزيرة وقنوات الإخوان فى طى النسيان.. إننى مع الفريق الذى يرى أن الدعوة للمقاطعة دعاية وأن كل ممنوع مرغوب، وأن الإنترنت أصبح ظهيراً شعبياً خارج السيطرة، وأن التكيف مع متغيرات العصر ليس ضعفاً، بل حنكة ودهاء!.
ما نحتاجه حقاً هو الارتقاء بمهنية الإعلام المصرى، والتواصل مع كل مهنى وطنى يحمل الجنسية المصرية فى الخارج، حتى نكون قادرين على مواجهة هذه الحرب الإعلامية الشرسة بنفس أسلحتها.
نقلا عن المصري اليوم القاهرية