تبدأ القصة في عام ٢٠٠٤، حين خرج علينا وزير البترول في عهد مبارك ليزف بشرى أن مصر صارت أحد أهم عشر دول على مستوى العالم في احتياطيات الغاز، وسرعان ما سنصبح سادس أكبر مصدر عالمي. ثم خرج علينا باستراتيجية صارت نغما في آذان المصريين: الثلث للاستخدام المحلي، والثلث للتصدير والثلث الأخير يبقى في الأرض لاستخدام الأجيال القادمة.
أول من استفاد من زخم الدعاية الحكومية، بأن مصر ترقد على بحر من الغاز الطبيعي، كان لوبي الصناعات كثيفة استخدام الطاقة. وكان هؤلاء على علاقة وثيقة بالحزب الوطني المنحل، ومنهم وزراء في الحكومة، ومنهم من يشارك عائلة الرئيس السابق (ومنهم من ينتمي حاليا لائتلاف دعم مصر).
نجح هؤلاء عن طريق صلاتهم بالنظام الحاكم في شراء الغاز بأبخس الأسعار (أرخص أو يعادل ثمن الغاز المباع في السعودية، صاحبة أكبر احتياطي بترولي في العالم).
ساهمت سياسة الدولة القائمة على بيع الطاقة رخيصة (مدعومة من جيوبنا) أن توسع هؤلاء بسرعة في بناء مصانع وشركات جديدة. صارت تمثل الصناعات كثيفة الطاقة ٢٠٪ من مصانعنا لكنها تستهلك ٨٠٪ من الطاقة الموجهة إلى الصناعة.
وكمثل كوب مليء فيه شفاط، يشرب منه العطشان بلهفة حتى يسمع صوت نضوب المشروب، سمعنا جميعا أن الغاز الطبيعي نضب.
استنفدنا كل ما أمكن استخراجه من غاز في تغذية صناعات احتكارية، ملوثة، ضعيفة التوظيف، قائمة على فساد في العلاقات بالنظام الحاكم.
قصة تبديد الغاز المصري: لا شفافية ولا محاسبة
لم نعلم تفاصيل الصفقات إلا متأخرا لنكتشف بعد فوات الأوان أن عدم الشفافية وغياب مراقبة البرلمان قد أديا أيضا إلى التصدير بأسعار بخسة - مقارنة بالأسعار العالمية- لم تنعم إسرائيل وإسبانيا وإيطاليا طويلا بها.
كانت مصر دولة غنية بالغاز الطبيعي. فأخذت تبعثره رخيصا في شكل عطايا على محاسيب النظام، حتى راكموا المليارات من الأرباح، ونضب الغاز في أقل من عشرة أعوام. صار لا يوفي احتياجاتنا المحلية ولا تعهداتنا التصديرية. ولم يحاسب على ذلك أحد بشكل شفاف وعلني.
وها نحن على وشك أن نبدأ في استخدام الاحتياطي الذي كنا قد تركناه للأجيال القادمة (حقل ظهر ضمن الاحتياطيات التي كان يتكلم عنها سامح فهمي). هو الثلث المتبقي بعد أن طار الثلثين. وها نحن نوقع صفقة استيراد للغاز، تثير من الدهشة والأسئلة ما يذكرنا بما فات.
بلد غنيٌ بالبترول والغاز فقيرٌ شعبه..
تشير منظمة الشفافية الدولية إلى أن انعدام الشفافية في البترول والغاز يؤدي إلى الفساد وإفقار الشعوب. "كثيرة هي الدول الغنية بالبترول أو الغاز والتي تأوي شعوبا فقيرة. كيف لذلك أن يكون؟ ما يحدث عادة هو أن يحتفظ قلة من السياسيين أو أصحاب الشركات بالثروة. فلا تُنشَر بيانات العائدات البترولية. كما تبقى تلك المدفوعات التي تدفع للحكومات مقابل استغلال الموارد طي الكتمان. ولا تتم محاصرة الرشى أو الاختلاسات. حين تحمي الشركات هوية أصحابها، وفروعها، فهي قد تسمح للفسدة من المسؤولين بأن يخفوا أموالهم المختلسة بعيدا عن الأعين. خاصة وأن هناك العديد من الشركات في قطاع البترول والغاز التي لا تفصح عن بيانات أعمالها في كل دولة على حدة". وهذا يسمح لهم بإخفاء الضرائب ورسوم الانتفاع التي يدفعونها. ولكن في غياب تلك المعلومات، لا نستطيع أن نخضع حكوماتنا لأي مساءلة حول الأموال التي تتلقاها". انتهى الاقتباس لتبدأ المخاوف.
وفقا لمؤشر حوكمة الموارد ٢٠١٧، والذي يغطي ٨١ دولة، تصدر معا ٨٢٪ من البترول في العالم، و٧٠٪ من الغاز، أن مجموعة القوانين الحاكمة لمنظومة الغاز والبترول في مصر معقولة، ولكن قدرة مؤسسات الدولة على تطبيق تلك القوانين شبه معدومة. وطبقا للمؤشر، حصلت مصر على درجة ٣٩ من ١٠٠ في حوكمة الغاز والبترول، وضعتها تلك الدرجة المتدنية في المرتبة ال٦٠، لا يتبعها سوى الدول "فاشلة الحوكمة". وأسوأ درجة كانت في مجال إدارة الموارد. وخاصة الهيئة العامة للبترول، والتي تعد في مرتبة متوسطة بين ١٦ شركة حكومية في الشرق الأوسط من حيث الحوكمة. وحصلت الهيئة على وصف "فاشلة" فيما يتعلق بالإفصاح عن الأنشطة غير التجارية وعن المبيعات وعن الفروع التابعة لها وعن الشركات التي أنشأتها بالمشاركة مع القطاع الخاص.
فماذا تقول لنا تلك المؤشرات عن الصفقة الحالية؟
تخليص الإبريز
من بين أكوام الدعاية والدعاية المضادة، وبعد تفنيد ما كتب محليا وإسرائيليا واستبعاد كل ما كذبه التعليق الموجز للرئيس عبد الفتاح السيسي، هذه هي أهم الحقائق المتعلقة بصفقة استيراد الغاز الإسرائيلي:
الغاز المستورد هو للاستخدام المحلي بالأساس، ويوجه إلى الصناعة المحلية.
الصفقة تمت بالتفاهم مع أجهزة الدولة لأنها تستخدم البنية التحتية التي توفرها الدولة.
الموضوع إذن يخص الشأن العام.
ولكن، لا توجد معلومات كافية ولا بيانات رسمية عن النفع العام من تلك الصفقة.
في هذه المرة، تقول لنا الدعاية، كما كان يقال في المرة الأولى، هي صفقة بين شركتين قطاع خاص، والقطاع الخاص يعرف كيف يعقد الصفقات الرابحة أكثر من الدولة. ويتردد اليوم كثيرا تعبير صفقة رابحة للطرفين win-win. فهل هي كذلك فعلا؟
حسنا فعل الرئيس أن أقر بأن تلك الصفقة لم تكن لتتم بدون أجهزة الدولة. فغير ذلك هو مما يستخف بالعقول.
ويبقى إقرار الرئيس منقوصا طالما لم يتم الإفصاح عن تكلفة تحويل مسار خط الغاز (من التصدير إلى الاستيراد)، ومن يتحملها، ولا تكلفة حماية الخط ومن يتحملها. وعن الربح العام عن تسييل كل متر مكعب من الغاز، وعن وضع محطات التسييل التي وفقا لأحد التقديرات لن يتبقى من طاقتها إلا الثلث فقط بعد تسييل الغاز الإسرائيلي، وهل يكفي ثلث الطاقة في المحطتين لتسييل الغاز المحلي؟ وكيف ستنظم تلك العملية؟ وهل فعلا هناك مباحثات لشراء إسرائيل لحصة أكبر في خط الغاز، كما ذكر موقع مدى مصر؟ وما أثر ذلك الاقتصادي والسياسي؟
أسئلة التنمية والسياسات العامة أيضا كثيرة، مثلا: لماذا لا يدخل مصر تقريبا سوى استثمارات في قطاع البترول والغاز، وهو قطاع كثيف رأس المال قليل التوظيف؟ لماذا لا توفر الحكومة الحوافز المناسبة لجذب النوع الأنسب لنا من المشروعات، التي تعتمد على التشغيل الكثيف؟
ولماذا تسمح مصر بأن تتخذ الشركات الخاصة في مجال البترول والغاز (ومنها بعض شركات الصفقة الأخيرة) الملاذات الضريبية كمقرات لها أو لفروعها، فلا تدفع ضرائبها بما يرضي القانون في مصر؟ أي نفع منها إذن إذا كان لا وظائف ولا ضرائب؟ ولماذا تظل هويات بعض أصحابها وفروعها غير معلنة بدقة، فلا نستطيع أن نتتبع إذا ما كانت هناك تعاقدات فاسدة أم لا؟ خاصة وأن في صفقتنا الأخيرة اتفاقية عدم افصاح تتعهد فيها الدولة المصرية بعدم استخدام المعلومات المتعلقة بالصفقة في أية معاملات قانونية أو تحكيم دولي، وفقا لمدى مصر.
الفارق بين الربح الخاص والمنفعة العامة
وأخيرا، يجب أن نتساءل عن أفضل أوجه الاستخدام للغاز المستورد (نفقة الفرصة البديلة). فقد أعلن السيد الرئيس عن استخدام الغاز المستورد في تشغيل نفس المصانع إياها، وإن تبقى ما هو غير ذلك، فهو للتصدير. وخص بالذكر مثال شركات الأسمدة، (التي يشكل الغاز الطبيعي فيها ٧٠٪ من مدخلاتها). فهل تلك هي أفضل وأهم صناعات يجب أن يوجه إليها ذلك المورد المحدود والمكلف؟
لعل الإجابة الواضحة من تجربة الأمس القريب هي لا.
لأن مصر بلد كثير سكانه، واحتياجاته من الطاقة كبيرة، فهي لا تملك ترف تصدير الأسمدة. إذ كأننا تكبدنا كل هذا العناء على حساب الدولة، كي يستطيع مصنع فلان أو علان تصدير أسمدته إلى أوربا وغيرها، وجني الأرباح. فتساهم مصر الفقيرة في دعم الفلاح الأوربي الغني.
وهكذا، يقول المنطق الاقتصادي أن سياسة استخدام الغاز، مستوردا كان أم محليا، يجب أن تقوم على استهداف صناعات بعينها تحتاجها الدولة للاستهلاك المحلي. وأن دعم الدولة يجب أن يتوجه فقط إلى تلك الصناعات التصديرية غير كثيفة الطاقة، حيث أننا لا نملك أي ميزة نسبية (وفرة مقارنة بغيرنا من الدول) في الطاقة.
نعم سوف يربح القطاع الخاص من تلك الصفقة الأخيرة. ولكن هل هو ربح خاص على حساب المنفعة العامة؟
لم يقدم أحد من القائمين على الصفقة ما يثبت عكس ذلك.
وقد شاهدنا كيف ربح القطاع الخاص مسبقا من صفقة مشابهة، وحين نضب الغاز، ربح من خلال التحكيم الدولي تعويضات تقدر ب٢ مليار دولار. وهنا تجب الإشارة إلى الضرر البالغ الذي تتكبده الدول النامية من إلزام الشركات لها بالتحكيم الدولي. وفقا للدراسة الهامة للباحث عبد الحميد مكاوي: "الاستثمار في مواجهة العدالة" والتي تقدر التعويض الذي يجدر على مصر دفعه لشركتين إسرائيليتين بنفس المبلغ المخصص للإنفاق العام على الصحة أو ثلث الإنفاق على التعليم في العام الماضي.
وماذا عن السياسة؟
لا يمكن انتزاع الموضوع من سياقه السياسي. لنتذكر الأساسيات: إسرائيل كيان محتل. غازه هو غاز فلسطين المحتلة. فهل يصح أن تسوق له مصر غازا مختَلَفٌ على مصدره؟ أليس من الأجدى حاليا ونحن في مخاض صفقة القرن أن نضغط من أجل السماح للإدارة الفلسطينية هي أيضا باستغلال نصيبها من الغاز الطبيعي؟ ألم يكن من الأجدى البدء بمساعدة لبنان، والتي تشكو من جور إسرائيل على نصيبها من الغاز في البحر المتوسط والتي أبدت استعدادها سابقا في تحمل نصيبها من تمويل خط الغاز العربي؟ أو البدء باستيراد غاز قبرص، وهو ما كان سيغيظ تركيا كثيرا.
في كل تلك البدائل ربح اقتصادي وسياسي لمصر وخسارة سياسية واقتصادية لإسرائيل.
إسرائيل اليوم عالميا هي في أضعف لحظاتها. فقد صبغتها سنوات من النضال الفلسطيني والعالمي بصورة المحتل العنصري، وتعاني العزلة الدولية جراء ذلك. من يتعامل معها أكاديميا عليه أن يعتذر أو يمتنع. ومن يتعامل اقتصاديا عليه أن يبرر فعلته أو تطاله حملات المقاطعة. فلماذا تسير مصر عكس الاتجاه؟
لعلنا نتذكر حين كان مبارك الأب يبحث عن الرضا الدولي لتمرير التوريث، قد وقع مع إسرائيل اتفاقية تقضي باستيراد شركات الملابس المصرية لمستلزمات إنتاج إسرائيلية. فكل خطوة تقترب بها مصر من إسرائيل تحظى بتقدير يرفع من أسهمها وسط المجتمع الدولي.
نقلا عن الشروق القاهريه