ما دام الحساب أمام الله فردياً: «وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا» تصبح فكرة «جماعة المسلمين» التى تعمل على هوامش الدول والمجتمعات وهماً من الأوهام الكبرى التى تحكم العقل المسلم.
وهم عشش وأفرخ فى بلاد المسلمين. المسلمون بوصف القرآن الكريم «أُمَّةً» وليسوا جماعة: «إِنَّ هَذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ».
والله تعالى نهى المسلم عن أن ينصب نفسه حكماً على غيره من المسلمين، خصوصاً فى مسألة الدين والإيمان. يقول الله تعالى «فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى».
يستدل البعض فى شرح فكرة «جماعة المسلمين» بالآية الكريمة التى تقول: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ».
الأمة هنا هى أمة الإسلام وليس جماعة ممتازة بين المسلمين. فكيف يتسنى لمجموعة أن تزكى نفسها على غيرها وتجعل من أفرادها قيماً على باقى المسلمين؟.
هذا الطرح يؤدى بالضرورة إلى تفكيك الأمة، فكل مجموعة يمكن أن تزعم لنفسها الجدارة بالقوامة، وهو ما تكشف عنه الآية التالية لآية «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ» - فى سورة آل عمران- التى تقول: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».
والتجربة التاريخية تدلل على أن فكرة الجماعة الممتازة أو المستثناة هى المقدمة الطبيعية لتفكك الأمة، وبإمكانك أن تجد تجليات ذلك فى تجربة جماعة الإخوان.
منذ نشأتها تبنت الإخوان مفهوم «الجماعة الاستثنائية»، وكان من الطبيعى أن يخرج من رحم الأمة استثنائيون آخرون، يرون أنهم الأجدر والأقدر على النهوض بالقوامة على غيرهم من المسلمين.
القرآن الكريم يؤكد فى العديد من مواضعه أن الله تعالى هو القيّم على البشر، وهو وحده المسئول عن حسابهم، فالإيمان مسألة فردية، والدليل على ذلك أن القرآن الكريم نصّ فى آيات كثيرة واضحة الدلالة على أن الحساب يتم بشكل فردى.
المفهوم الفردى للإيمان ولحساب الإنسان على الدور الذى لعبه الإيمان فى سلوكياته فى الحياة، يجعل كل من يعلى الجماعة على الفرد المسلم جديراً بمراجعة أفكاره. ولو أنه قلب فى صفحات التاريخ الإسلامى لأدرك أن أصل الكثير من الفتن والكثير من الصراعات الدموية التى أوجعت المسلمين مردّها هذه الفكرة العجيبة، فكرة «الجماعة الاستثنائية» أو «الفئة الممتازة» من المسلمين.
وثمة وجه آخر للخطورة فى تبنى فكرة «جماعة المسلمين» يرتبط بإحلال مفهوم «الدعوة» التى تتبناها الجماعة محل «الإسلام». إن المتتبع لأدبيات الإخوان يلاحظ سقوط الجماعة فى هذا الفخ الخطير، حين تعتبر نفسها والإسلام وجهين لعملة واحدة.
قد يقول قائل إن الدعوة لدى الإخوان تنصرف بالأساس إلى «الدين»، فالجماعة تدعو إلى «الإسلام»، وليس لأمر آخر، لكن من تعمق فى فهم تجربة «الجماعة» يعلم أن مصطلح «الدعوة» يحل فى النهاية محل مصطلح «الإسلام»، وتصبح الكتب التى تشرح أفكار الدعوة وتعرض لمفاهيمها أكثر قداسة من أى نصوص أخرى، هذا لا يُقال صراحة بالطبع، لكنه يأتى كنتيجة طبيعية يصل إليها العضو مع مرور السنين، وتمكّن أفكار الجماعة من عقله ونفسه، وبدلاً من أن يكون «الدين عند الله الإسلام» يصبح الدين عند الله «الإخوان».
لقد فوجئ البعض ذات يوم بـ«صبحى صالح» -أحد أقطاب جماعة الإخوان- وهو يردّد: «اللهم أمتنى على الإخوان».
أنت هنا -ببساطة- أمام نموذج يمشى على قدمين لشخص تمكنت الدعوة من عقله، وتوارى فى ظلها الإسلام.