بقلم : محمود خليل
فشلت الجهود المصرية لإقناع السودانيين بتكوين دولة اتحادية مع مصر، لكن سعْى جمال عبدالناصر لتفعيل فكرة الوحدة بين مصر وغيرها من الدول العربية تواصَل. كان الرئيس متحمساً لفكرة القومية العربية، ولا نستطيع أن نعين بسهولة الحدود الفاصلة بين مساحة إيمان «عبدالناصر» بالفكرة من ناحية وطموحه إلى قيادة العرب بعد الاستقرار على كرسى قيادة مصر. فى كل الأحوال شهدت السنوات الأخيرة من حقبة الخمسينات وما تلاها اندفاعات متنوعة لتأكيد الدور المصرى على المستوى العربى. تأسست دولة وحدوية بين مصر وسوريا عام 1958، لكن سرعان ما سقطت وتحللت عام 1961، وقد خلّفت جرحاً عميقاً فى نفس «عبدالناصر»، وكان لها أيضاً صدى خطير على علاقته بصديقه «عبدالحكيم عامر» الذى تولَّى إدارة ملف الوحدة من سوريا.
فشلت الوحدة فى سوريا فاتجه «عبدالناصر» إلى تعويض الخسائر التى تخلَّفت عنها فى اليمن. فى 26 سبتمبر عام 1962 قام عدد من العسكريين اليمنيين -بقيادة عبدالله السلال- بالإطاحة بحكم الأئمة (كان يقوده حينذاك الإمام محمد البدر). اجتمع «ناصر» مع رفاقه لبحث طلب ثوار اليمن بإمدادهم بقوات عسكرية لمواجهة القوات المدافعة عن الإمام والمدعومة سعودياً. انقسمت الآراء ما بين مؤيد ومعارض، لكن «عبدالناصر» حسم الخلاف وقرر إرسال كتيبة إلى اليمن لمساندة العسكريين الثائرين، ثم أخذت القوات تتدفق بغزارة لتواجه قبائل لا يحكمها ولاء إلا للمال، تحارب فى الصباح لصالح الجمهوريين الذين يقودهم «السلال»، وفى المساء تقتل وتغتال لحساب الملكيين الذين يدعمون حكم الأئمة. والمهمة التى كان مقدراً لها بضعة أشهر تواصلت لسنوات خسرت فيها مصر كثيراً، وتسممت فيها نفسية الشعب المصرى بصورة غير طبيعية.
الكذب كان سُماً من السموم القاتلة التى أترعت بها النفس المصرية وهى تتابع تفاعلات ما يحدث فى اليمن. كانت أجهزة الإعلام حينذاك تنقل صورة تتنافى إلى حد كبير مع ما يحدث على أرض الواقع. احتشدت الرسائل الإعلامية بالمفردات التى تُقنع المتلقى بالحرب على الرجعية التى تعمل ضد حركة التاريخ وتريد العودة بالعرب سنين إلى الوراء، وتدفعه إلى التعاطف مع معاناة الشعب اليمنى الذى يعيش خارج التاريخ نتيجة حكم الأئمة. هذه الرسائل كانت تحمل جزءاً من الحقيقة، لكنها لم تكن تعبِّر عن الحقيقة كلها. فواقع الحال أن مصر حاربت فى اليمن بإيعاز من السوفييت الذين نصحوا «عبدالناصر» بالتدخل لحماية ثورة اليمن الشبيهة بثورة 52، ومواجهة السعودية وبريطانيا فى المنطقة، وفك حصار العزلة الذى ضُرب على مصر بعد زوال دولة الوحدة مع سوريا. أما الحديث عن معاناة الشعب اليمنى فكان حديثاً مراوغاً، لأن المصريين عانوا بسبب حرب اليمن على مستويات عدة، وكان لخسائر مصر فيها بالغ الأثر على الأوضاع الاقتصادية، وهز قدرة مصر على كبح جماح الأطماع الإسرائيلية.
المفارقة بين صور الواقع والصور التى رسمتها وسائل الإعلام فى الستينات لحرب اليمن أدت إلى قسمة المصريين إلى فريقين، يضم أولهما المدافعين عن المشاركة المصرية والمصدقين لما تردده وسائل الإعلام، وأغلب أعضاء هذا الفريق من المصريين البسطاء، وثانيهما يشتمل على من استغلوا خسائر مصر والمصريين فى اليمن لمكايدة النظام القائم وانتقاده والشماتة فيه. وأغلب أعضاء الفريق الثانى كانوا من الموتورين من «عبدالناصر» وسياساته، وعلى رأسهم جماعة الإخوان. وحينها سرت نكتة فى الشارع المصرى تقول إن أغنية أم كلثوم «هسيبك للزمن» أصلها «هسيبك لليمن».