بقلم : محمود خليل
بدأ أفراد الشعب يتشاركون فى أحاسيسهم نحو ما يحدث فى حرب اليمن عندما بدأت نتائجها تمس حياتهم المباشرة، فاختفت بعض السلع التموينية، وقيل حينها إن السبب فى ذلك شحنات التموين التى يتم إرسالها إلى اليمن. توقف العمل أيضاً فى بعض المصانع، وتعثرت خطة بناء مدارس جديدة، مما اضطر القائمين على أمر التعليم إلى زيادة عدد التلاميذ فى الفصول ليصل إلى 60 تلميذاً.
ومع توالى سنوات الحرب ضربت مصر أزمة اقتصادية عرقلتها عن تمويل الكثير من المشروعات المتعلقة بالكهرباء والمياه والصرف الصحى والنقل والمواصلات.
تعالَ، مثلاً، إلى مشكلة «السكة الحديد» وهى واحدة من المشكلات المزمنة فى مصر، وقد بدأت تفاعلاتها فى الستينات بسبب ما أصاب هذا القطاع من إهمال نتيجة تراجع معدلات الإنفاق على صيانته وتطويره، ثم تفاقمت لأسباب أخرى متعلقة بأداء الحكومات فى الحقب التالية.
لكنك تستطيع أن ترصد بدايتها فى الستينات من خلال واحدة من أشهر المسرحيات التى أنتجت بعد 3 سنوات من اندلاع حرب اليمن، وهى مسرحية «أنا فين وانت فين» التى كتبها سمير خفاجى وبهجت قمر، وأخرجها فؤاد المهندس وفايز حجاب.
أغنية «رايح أجيب الديب من ديله» التى اشتملت عليها المسرحية تعبر عن حال السكة الحديد خلال تلك الفترة، وتقول إن قطارات الستينات لم يكن يحكمها أى نظام، فهى تسير وتقف تبعاً لمزاج من يقودها، أو تسير حيناً وتتعطل أحياناً «بيكتب سطر ويفوّت سطر»، وتعانى من تآكل القضبان وعدم صيانتها، مما يجعلها تسير «متبخترة» وعرضة للانقلاب فى أى لحظة، وهو ما يدفع السائق إلى التهدئة فى بعض الأحوال، خصوصاً إذا صادف فى طريقه كوبرى «قديم ومصدى»، ما يدفعه لمواصلة «التبختر» والميل يميناً ويساراً.
ويختتم «مقطع القطار» من الأغنية بتلخيص حالة «الأونطة» التى تحكم إدارة القطارات فى مصر حينذاك، من خلال عبارة: «من أمريكا لغاية طنطا يمشى 11 كيلو أونطة».
كان الشعب يعانى من هذه المشكلات، لكن قطاعاً لا بأس به كان على قناعة وإيمان بما يفعله جمال عبدالناصر فواصل تأييده له، لكن قطاعاً آخر من المصريين بدأ إيمانه بما يحدث يتآكل بسبب الأزمة الاقتصادية التى ضربت نواحى عديدة من حياتهم، لكنهم كانوا مسكونين بالخوف من إبداء أى رأى فيما يحدث.
فالظروف التى كانت سائدة حينذاك كانت تدفع إلى الحذر، وعلى المستوى الإعلامى لم تكن هناك مساحات متاحة للرأى الآخر، وكانت النتيجة أن لجأ الشعب إلى النكتة السياسية كعادته، فانخرط فى نزع الضحكة من قلب المحنة، فى محاولة يائسة لترميم النفوس التى أمست هشيماً تذروه الرياح بسبب كثرة عدد الشهداء من خيرة أبناء الوطن، ويسجل «وجيه أبوذكرى» فى كتابه «الزهور تُدفن فى اليمن» أن عددهم وصل إلى 20 ألف شهيد. وحقيقة الأمر فإن الشعب المصرى بعد مرور ما يزيد على 10 سنوات على ثورة يوليو 1952 أصبح أكثر إيثاراً للسلامة، وأكثر اهتماماً بمتطلبات معيشته، وأشد بعداً عن «صداع السياسة»، وارتضى بفكرة مقايضة السياسة بالاقتصاد.
والدليل على ذلك أنه لم يشعر قبل 1962 بأى نوع من الضجر من نظام الحكم، بل على العكس كان شديد الحماس له، ومؤمناً بأن رغيف الخبز أهم بكثير من الحرية، اختلفت مشاعر الناس فقط بعد أن أدت حرب اليمن إلى أزمة اقتصادية أصبح فيها «خبز» المواطن مهدداً.