من الأشياء التي تقاس بها المجتمعات والحضارات تعاملها مع الفنون بشكل عام، فالفن عبارة عن رسالة ملهمة تصنع الكثير، وتختصر الفكر والبيان في قالب فني بديع، من خلال لوحة، أو على خشبة مسرح، أو من خلف شاشة تلفاز أو سينما.
وما تزال خطواتنا نحو الفن، تتم على استحياء وبوجل وبخطوة للأمام وعشر للوراء!
وهذا بسبب عدم وجود موقف واضح من الجهات الرسمية والجهات المشرعة لإقامة الفعاليات الفنية، فكثيراً ما نرى إعلان عن فعالية فنية، وما إن ينتقد أحد إقامتها، حتى تبادر الجهات المسؤولة إلى إلغائها، والإعلان أنها تمت من دون ترخيص، وتحيل أصحابها للتحقيق، ولا أظن أن شيئاً من هذا حدث، فقط مجرد سحب غضب معين، والابتعاد عن الخوض في معارك اجتماعية لا داعي لها.
وما إن تقام الفعالية، حتى نرى التضييق عليها، وكثرة الإشاعات حولها، وبياناً هنا وبياناً هناك، ولجاناً تشكل وقرارات تصدر، إما بسبب مشاركة طفلة، أو بسبب حضور نساء .. الخ!
كلنا شاهد أخيراً ما حدث لـ«الجدارية الفنية» بالرياض، التي رسمها عدد من الفنانين والفنانات بتكليف من إمارة وأمانة مدينة الرياض، وفي العلن وأمام الناس، يقومون برسم لوحة وطنية تخبر عن رسالة الفن تجاه قضايا الوطن، وما إن تكتمل اللوحة ويفرح بها صانعوها، ويرون فيها كسراً لقوالب شوارعنا الكئيبة التي ليس للفن فيها حضور لافت، يفاجؤون بأنها أزيلت وطمست في لمح البصر، من دون علم منهم ولا حوار معهم، وكأننا هنا لسنا في دولة واحدة ومرجعية واحدة!
مثل هذه الأمور، عندما تخرج في مواقع «التواصل»، ستترك انطباعاً ليس بالجيد عنا وعن التحولات التي نعيشها أخيراً.
لا بد من حكمة واضحة وجلية في التعامل مع مختلف قضايانا الداخلية، وبخاصة التي تحتمل الرأي والرأي الآخر، ولا بد من حسم الأمور المتعلقة بالفن وأنواعه، وتحديد معالم طريق التعامل معها، لأننا مقبلون على حراك فني كبير، قد نخسر الكثير من مكاسبنا، بسبب عدم وضوح التوجه والموقف.
ماذا سنفعل حيال فيلم سينمائي، وكيف سنتقبل نصاً مسرحياً، وما مدى تفاعلنا مع عرض أزياء أو مهرجان جمال، وكيف سنتعايش مع مساحة وجود للمرأة أكبر حضوراً أو على المنصات، وهل الأوبرا كارثة أم أنها تفاعل حضاري يحتاجه المجتمع؟
نحن نشهد تحولات كبرى في مجتمعنا، ووجود الشباب كفئة كبيرة تجعل من الأمور أكثر تسارعاً، وتجعلنا نعيد قراءة المشهد ألف مرة، ونبتعد عن الخوف غير المبرر، وعن التقليدية في رؤيتنا وتعاملنا مع الفن وأهله.
لا نريد شيئاً في الظلام، ولا نريد مفاجآت تحدث وتشق الصف المجتمعي وتسمح بمناوشات نحن في غنى عنها، لا بد من بيئة قانونية تحفظ حقوق الكل، المتفقين والمختلفين، وتسمح بالتعددية والمضي قدماً بما يرضي الله ثم ولاة أمرنا، من دون الخوض في تأويلات وغيبيات، والركن لنصوص لا تمت لثقافتنا وفكرنا بصلة.
لا بد لرجال الدين من وقفة هنا، لأن لكلمتهم هيبة، ويطمئن لها الكثيرون ويرون فيها بركة وفوزاً ونجاحاً ممتداً، ولا بد للمسؤول أياً كان مكانه ألا يهرب من المواجهة مبكراً، وألا يوافق على شيء ثم يتنصل منه، ويجعل الأمور تتفاقم بسبب تصرفه اللامسؤول هذا.
يجب أن نؤمن، أفراد ومجتمعات وهيئات، أن الفن متنفس لكثير من الكبت، ومساحة جميلة للتعبير عن الرأي واختصار الفكرة في قالب جذاب، وأننا من خلاله نعيد تشكيل كثير من جنبات حياتنا، ونلونها بالبديع والمبدع، ونفوز بالمشهد الحضاري الأجمل، فبالفن نصل للكثيرين هنا وهناك، بلغة عصرية عالمية تمنحنا الرقي وتجعل العالم ينظر إلينا بنظرة إيجابية، يرى فيها من نحن ويطلع على ما نحن عليه، من خلال فنوننا وتراثنا وهويتنا الممتدة عبر الزمان والمكان.
نقلا عن الحياه اللندنيه