بقلم - سمير الشحات
بات شائعًا هذه الأيام اجتماع مجموعة من الأشخاص على «الواتس آب» ليشكلوا فيما بينهم «جروب» خاصًا بهم لا يدخله أحد سواهم، وأصبحْتَ تسمع كل يوم عن جروبات تضم سكان كومباوند من الكومباوندات، أو عدة موظفين فى مؤسسة، بل وفى قسم واحد من أقسام تلك المؤسسة، علاوة على جروبات لأولياء أمور الطلاب فى مدرسة ما، بل ولطلاب الفصل الواحد داخل المدرسة الواحدة.. كما أن ثمّة جروبات لساكنى كل عمارة يناقشون من خلالها شئون عمارتهم.. ومثل هذا كثير.
هذا تطور مذهل على عدة أوجه، منها أن الجروب يتيح لأعضائه مناقشة تفاصيل لا يرغبون فى أن يعرفها أحد سواهم، وكذلك سرعة البت فى أمر ما كان له أن ينجز بسرعة فأتى «الواتس» ليسمح لهم بهذا الحسم السريع، وأيضًا أنه يجعل المشتركين يتناقشون بمنتهى الحرية والأريحية حيث لا رقيب عليهم إلا أعضاؤه أنفسهم.. ويضاف إلى هذا أن كل عضو يشعر بأن له كيانًا ورأيًا ويحقق من خلال الجروب ذاته!
.. هل يمكن المغامرة -بناءً على ذلك- بالقول إن هناك ثقافة جديدة تتخلّق الآن فى تلافيف العقل المصرى قد يجوز لنا أن نتجرأ فنطلق عليها ثقافة الجروب، أو ثقافة الكومباوند المغلق؟.. نعتقد أنه من الممكن الإقرار بذلك، فإن أقررنا فسيكون السؤال المنطقى هنا هو: وما تأثير تلك الثقافة الجديدة على مسارات حياتنا، وعلى بنيان القيم لدينا؟
هل نستطيع -مثلًا.. وأولًا- أن نستنتج أن هذه الجروبات المغلقة ( ثقافة الكومباوند) ستؤدى إلى مزيد من العزلة والتقوقع بحيث يكتفى هؤلاء الأعضاء بمناقشة أمورهم فى سرية تامة، بمعزل عن التيار العام للجدل والحوار والمناقشة الذى اعتدنا عليه من خلال وسائل الإعلام التقليدية القديمة؛ كالتليفزيون والإذاعة والصحف، وبعيدًا عن الإجماع الشعبى حول قضايا الأمة والشأن العام، ما يؤدى إلى إفقاد وسائل الإعلام تلك دورها ووظيفتها؟ `وهل يترتب على ذلك -ثانيًا- أن مساحة البوح والاعتراف والمصارحة سوف تتآكل وتنكمش من الآن فصاعدًا لتقتصر على أبناء الكومباوند، أو الجروب، أو المؤسسة، فإذا بالمجتمع عندنا يتحول إلى جزر منعزلة تفكر فيها كل جزيرة بمفردها.. ما يقود فى نهاية المطاف إلى مزيد من «الاغتراب» والغربة داخل المجتمع الواحد، خاصة أن الحميمية التى ستنشأ بين أعضاء الجروب ستمتد بالضرورة إلى مناقشة قضايا المجتمع كلها وليس الاقتصار فقط على الهدف الذى أنشئ الجروب من أجله؟ ثم هل يمكن - ثالثًا- الذهاب فى الخوف إلى حد تصور أن ما يسمى الرأى العام الواحد سوف ينقرض فلا نستطيع بالضبط معرفة رأى أبناء الأمة الواحدة فى القضايا الملحة لها، وصولا، لا سمح الله، إلى أننا سنتحول إلى مجموعة من الشعوب المفتتة الصغيرة التى لا تسمع الواحدة منها للأخري، ما ستنجم عنه آثار اجتماعية وسياسية ونفسية لا يعلم نتيجتها إلا الله تعالى وحده؟
إن الأصل فى الأمة الواحدة الصلبة المتماسكة هو أن ثمة تواصلًا يوميًا، بل ولحظيًا، بين أبنائها، فإذا ما انقطع هذا التواصل يتشتت تيار الوعى الجمعى بين الناس، لتختفى ما تسمى المصلحة القومية العليا، حيث سيكون لكل مجموعة أو جروب تصورها الخاص عن هذه المصلحة، لينحصر فكر الأعضاء فى مصالحهم الخاصة.
كما أن العقل المتشكك الجانح فى لهاثه الفكرى قد يعن له أن يتصور خطورة أخري، وهى أن الأدمينستراتور (أى المنسق.. أو ما يسمونه أدمن الصفحة التى تضم أعضاء الجروب) سيكون حرًا فى إدخال أو طرد من يراه من الأعضاء خارجًا عن الخط العام للصفحة.. فهل نكون ساعتئذ أمام ديكتاتورية جديدة «نونو» فإذا بنا -بداعى الحرية المغلقة- قد أصبحنا إزاء ديكتاتوريات صغيرة منتشرة، ما يرسخ ثقافة الاستبداد رغم أننا حسبنا فى بداية إنشاء الجروب أننا نتخلص منها؟
حكى لى صديق عزيز أن زوجته تظل ممسكة بالموبايل تتبادل الرأى والمشورة مع صويحباتها طوال النهار، وأحيانا خلال الهزيع الأول من الليل، وعندما سألها: مع من تتحدثين يا عزيزتي؟ ردت لاهية: مع جروب العائلة، وفى أحيان أخرى تقول: مع جروب العمارة، وفى ثالثة تقول: مع جروب زميلاتى فى العمل. أردف صاحبى وهو يقهقه سعيدًا: (آهى جت من عند ربنا.. فأخيرًا ها هى أصبحت ملهية عني!).. طبعًا لم أشأ أن أصدمه فأسأله: وماذا تتصور سيكون حجم الإلهاء أو مغبته فى المستقبل يا بطل؟
علاوة على هذا، ربما يكون من المناسب فى هذا السياق لفت الانتباه إلى خطورة أخري، ألا وهى أن هذا الاستغراق فى عالم الواتس آب والجروبات الفسيح يؤشر على فشل وسائل الإعلام لدينا فى جذب انتباه الجماهير، مما سيشكل فى المستقبل ثقافة بديلة فى عقول العامة لا نستطيع حساب مدى تأثيرها، أو مدى جنوحها عن التيار العام للعادات والتقاليد والأعراف التى نريدها للأمة المصرية، خاصة لو عرفنا أن المواطن العادى البسيط بات قادرًا على الولوج إلى مواقع وفيديوهات ومسلسلات وأفلام لم يكن يعرف عنها شيئًا من قبل.. فهل نحن واعون لحجم خطر تلك الثقافة البديلة؟
.. ويبقى أن واحدًا من المثقفين المتشككين إياهم قد يرغب فى طرح خطورة إضافية لثقافة الجروب هذه، وهى أنه فى غيبة الأحزاب السياسية عندنا، وعجزها عن تقديم إجابات وحلول شافية لمشكلات المواطن اليومية، وترك المهمة للحكومة وحدها، فإن هذه الجروبات سوف تكون متنفسًا لأعضائها للفضفضة والدردشة (بما فيها الفتوى فى الأمور السياسية).
ولأن هؤلاء الأعضاء ليست لديهم المعلومات، ولا الخبرة، ولا الوعى الكافى للحكم على الأوضاع بالبلد فإن الباب سيكون مفتوحًا على مصراعيه للشطط والشائعات، بل ولعبث العابثين.. ربنا يستر!.
نقلا عن الاهرام القاهرية