التحولات السياسية غير المسبوقة التى حدثت أخيرا فى ثلاث دول إفريقية هى زيمبابوى، إثيوبيا، جنوب إفريقيا ــ جديرة بالاهتمام والمتابعة، ليس فقط لما تمثله من تحولات فارقة فى دول محورية على صعيد القارة الإفريقية ولكن لما تقدمه من دروس مهمة فى العمل السياسى.
أهم درس فيما حدث من تغيير سياسى فى الدول الإفريقية الثلاث هو إدارة انتقال سلمى للسلطة، دون اقتتال أهلى أو بث رعب باحتمالات سقوط الدولة أو القيام بتصفية المعارضين وترويع المواطنين. السبب الثانى للاهتمام هو اتباعها بشكل أو بآخر نمط «الخروج المتفاوض عليه»، وإن كان بتدخل عسكرى صريح فى حالة زيمبابوى لإزاحة رئيس تشبث بالسلطة المطلقة كما سنشرح لاحقا. الملاحظة الثالثة فيما يخص النماذج الثلاث هو غياب أى تدخل خارجى مؤثر فيما تعلق بمجريات انتقال رأس السلطة.
الملاحظة الأخيرة فيما يتعلق بالمشهد الإفريقى هو ما تنطوى عليه من مفارقة تكاد تشبه السباحة عكس التيار. فالحكم الديمقراطى فى دول العالم من الولايات المتحدة وصولا إلى الهند وتركيا وعالمنا العربى، يتعرض لانتكاسة حقيقية بسبب صعود التيارات السلطوية والأحزاب الشعبوية وحكم الرجل الأوحد. على عكس ذلك شاهدنا فى جنوب إفريقيا وإثيوبيا حراكا مجتمعيا وآليات مختلفة من أدوات العمل الديمقراطى تتشابك وتتفاعل كلها من أجل إحداث التغيير السياسى المنشود.
زيمبابوى:
فى زيمبابوى لا توجد ديمقراطية، ولكننا شاهدنا فى نوفمبر الماضى انقلابا عسكريا ناعما لإخراج ديكتاتور تشبث بالسلطة الأبدية. وقف الجيش خلف صعود نائب الرئيس السابق إيمرسون منانجاجوا للسلطة، وساند تسلمه لمقاليد السلطة وسط ترحيب الشعب ودوائر داخلية وخارجية مؤثرة. كان منانجاجوا المرشح الحزبى الأبرز لخلافة موجابى قبل أن يطيح به الأخير لصالح زوجته جريس موجابى.
عزل منانجاجوا كان الشرارة التى دفعت الجيش إلى التحرك. وُضع موجابى قيد الإقامة الجبرية تحت سيطرة الجيش. فى البداية تعنت موجابى ورفض الاستقالة. لكن ضغوط الجيش بالتوازى مع قيام الحزب الحاكم بإقالته، ثم البدء فى البرلمان بإجراءات عزله تمهيدا لمحاكمته عجلت برحيله. رحيل موجابى لم يحدث بآليات ديمقراطية ولكنه أُخرج فى صفقة أعطته حماية ومعاشا ضخما وحصانة من الملاحقة القضائية. الاتحاد الإفريقى، الذى يرفض فى العادة الاعتداد بنتائج الانقلابات العسكرية، رحب باستقالة موجابى ولم يدن الانقلاب العسكرى، بل ربما يمكن القول إنه تقبل نتائج الانتقال السياسى الذى أعقب الانقلاب. فالبيان الصادر عن الاتحاد بعد أحداث نوفمبر، اعتبر أن شعب زيمبابوى «قد أعرب عن إرادته بضرورة نقل السلطة بطريقة سلمية». موقف الاتحاد الإفريقى لايزال ملتبسا بعض الشىء، وهو قد أرسل وفدا سياسيا رفيعا أخيرا إلى زيمبابوى لتقصى الملابسات الأخيرة.
موجابى حكم بلاده بالحديد والنار طيلة ٣٧ سنة وأفقر بلدا كان من أغنى بلدان إفريقيا. الجيش تدخل وساهم فى فتح أفق سياسى ظل مغلقا لعقود طويلة. قد يجوز القول إن تدخله جاء لضمان مصالحه، بتقوية شوكة الجناح الحاكم الآن من الاتحاد الوطنى الزيمبابوى الإفريقى ــ الجبهة الوطنية.
من غير الواضح بعد مدى استعداد الرئيس الجديد منانجاجوا لعمل الإصلاحات الديمقراطية المطلوبة والقبول بالتعددية والمنافسة السياسية.
نتمنى أن ينعم شعب زيمبابوى بديمقراطية حقيقية، وألا يكتفى الرئيس الجديد كما هو ظاهر، بالهرولة وراء الاستثمارات الأجنبية تحت شعار «زيمبابوى الآن منفتح على بيزنس».
إثيوبيا
تخبط، عنف، شد وجذب، تراجع ــ هو حال السلطة الإثيوبية اليوم. بشكل مفاجئ فى ١٥ فبراير، قدم رئيس الوزراء الإثيوبى، هايلماريم ديسالين استقالته من منصبه كرئيس للحكومة ورئيس حزب الائتلاف الحاكم.
الاستقالة كانت حدثا غير مسبوق فى بلد منغلق سياسيا، متعدد الأعراق، يحكمه ائتلاف سياسى تسيطر عليه الأقلية التجرانية. وتعد إثيوبيا هى الأقوى عسكريا فى القرن الإفريقى، والشريك الأهم للولايات المتحدة فى إطار ما يُعرف «بالحرب على الإرهاب» فى شرق القارة. هذه الشراكة الأمنية الواسعة مع الغرب أعطت شبه حصانة للنظام الإثيوبى ضد المساءلة بشأن ما يحدث داخليا من قمع المعارضين. جاءت استقالة ديسالين تحت وطأة المظاهرات المستمرة منذ أكثر من عامين احتجاجا على التهميش والإفقار، خاصة فى إقليمى الأورومو والأمهرا، اللذين يمثلان ثلثى سكان إثيوبيا. وعلى الرغم من القمع الأمنى فقد زادت الاحتجاجات لتشمل ربع البلاد حتى وصلت إلى مشارف أديس أبابا.
جن جنون السلطة وتوالت الأحداث الدرامية التى عبرت عن تخبط وتراجع فى مواجهة حراك أبناء المهمشين السلمى الهادر. فى ١٣ فبراير أفرجت السلطات عن بيكيل جيربا، أحد أهم ممثلى الأورومو والمعتقل منذ ٢٠١٥. فى اليوم التالى خرج من السجن بعض قادة المعارضة وناشطين، من بينهم الإسلامى أحمدين جيبيل، ليصل عدد المفرج عنهم أكثر من ستة آلاف شخص منذ يناير الماضى. بالتوازى مع أكبر حركة إفراج عن معتقلين سياسيين، قدم رئيس الوزراء استقالته، التى جاء بها أنه يتنحى ليكون جزءا من الحل السياسى لاحقا. فى اليوم التالى للاستقالة أعلنت الحكومة مجددا فرض حالة الطوارئ لمدة ستة أشهر.
إثيوبيا اليوم فى اختبار صعب ونظامها القائم على الحكم الفيدرالى على المحك
الخيارات صعبة أمام حكام إثيوبيا والحلول غائبة. المراقبون يرون أن أمل إثيوبيا فى عودة السلام الأهلى هو فى تقديم سلسلة جديدة من التنازلات تنطوى على إعادة توزيع حقيقى للقوة السياسية والاقتصادية. من غير الواضح بعد مدى معارضة النخب الحاكمة لهذا الطرح، وبالأخص «جبهة تحرير شعب التيجرى»، وهو الحزب المُهيمن على الائتلاف الحاكم، والمسيطر على مقدرات البلد منذ أكثر من ربع قرن، على الرغم من تمثيله لأقلية لا تتعدى ٦٪ من مجموع السكان.
فرض حالة الطوارئ هو تصعيد للمواجهة ولكن الشعب الإثيوبى قد ذاق طعم قوته السلمية وطعم النصر المستولد من رحم ثورة... فهل يتراجع؟ بشكل أو آخر فالجميع يعرفون أن الوضع الراهن غير قابل للاستمرار.
جنوب إفريقيا
إثيوبيا وزيمبابوى تصنفان «كأنظمة سلطوية» بحسب مؤشر الديمقراطية فى العالم الذى يصدر سنويا عن وحدة الاستخبارات الاقتصادية لمجلة الإيكونوميست. هذا المؤشر يبنى أحكامه بالاستناد إلى معايير خاصة، من بينها وضع العملية الانتخابية إضافة إلى الحريات المدنية وأداء الحكومة والمشاركة السياسية.
يضع «مؤشر الديمقراطية» جنوب إفريقيا فى فئة «الديمقراطيات المنقوصة» ــ بدرجات تقييم الأداء تزيد على ٧ نقاط من عشرة. وتضم هذه الفئة الهند والولايات المتحدة، اللتين ما كنا نتخيل أن تقارن أنظمتهما السياسية بجنوب أفريقيا، التى بدأت تحولها الديمقراطى فى ١٩٩٤ برئاسة المناضل نيلسون مانديلا. ولكن ما حدث أخيرا فى جنوب إفريقيا خلال عملية الانتقال السياسى يدعونا لمراجعة أفكارنا المسبقة.
الحنكة السياسية والضغوط التى مارسها أقطاب الحزب الحاكم ــ المؤتمر الوطنى الإفريقى ــ خلال مفاوضات الغرف المغلقة أجبرت جاكوب زوما على الاستقالة لصالح نائبه المخضرم ــ سيريل رامافوسا ــ الذى نصبه البرلمان رئيسا فى اليوم التالى ١٥ فبراير. مفاوضات ومقايضات أدت إلى خروج رئيس واعتلاء آخر هرم السلطة فى عملية تمت بشكل سلمى ودون إراقة دماء.
زوما كان يقول أنه باق فى منصبه إلى يوم الدين كما قال موجابى من قبله، لكن لأن آليات الرقابة الديمقراطية تعمل فى جنوب إفريقيا أفضل بكثير من نظيرتها فى زيمبابوى، تم التخلص من الرئيس وإن يكن بعد تسع سنوات بدلا من ٣٧ فى حالة موجابى. أدرك أقطاب المؤتمر الوطنى الإفريقى أن زوما بات عبئا على الحزب الحاكم الذى يستعد لخوض الانتخابات البرلمانية فى العام القادم. تورطه فى قضايا فساد شخصى إضافة إلى التراجع الكبير فى المؤشرات الكلية للاقتصاد خلال حكمه، مع ازدياد نسب البطالة والدين الداخلى والفقر أيقظ الحزب الحاكم.
أدرك الأخير أن الشعبية التى كانت تتمتع بها حركات التحرر الوطنى قبل أن تتسلم زمام السلطة بدأت تتآكل لصالح أحزاب المعارضة. أحزاب المعارضة كانت فى طليعة الكاشفين عن فساد زوما وسلطويته، وخاصة حزب «محاربون من أجل الحرية الاقتصادية» اليسارى، الذى كان بمثابة شوكة فى خاصرة الرئيس. الصحافة الحرة لعبت أيضا دورا هائلا وكذلك القضاء ومؤسسات الرقابة على المال العام.
الجدير بالملاحظة أن الانتقال السلمى للسلطة فى جنوب إفريقيا كان نتاج تشابك عوامل كثيرة ولكن اللافت للانتباه بالنسبة لى، هو درجة وعى المواطنين بأهمية دورهم المدنى فى الرقابة على أداء الحكومة، وهو حقٌ مصان فى دستور عام ١٩٩٦، وهو أحد أهم الدساتير التقدمية فى العالم. الرئيس سيريل رامافوسا وهو يطرح عقدا اجتماعيا جديدا على المواطنين فى خطاب توليه السلطة أكد على نهج الأب الروحى للبلاد نيلسون مانديلا بجعل الشعب سيدا ومشاركا فى صنع القرار، وهو إرث بدده زوما خلال تسع سنوات من حكمه.
***
لايزال أمام جنوب أفريقيا الكثير لتحقيق العدالة الاجتماعية وسد الفجوة الاقتصادية الهائلة بين غالبية المواطنين السود والأقلية البيضاء.
أخيرا نعت الرئيس الأمريكى ترامب الأفارقه بلفظ كريه فى إطار حملته العنصرية البغيضة ضد المهاجرين. ولكننا نتذكر هنا شهادة أمريكى آخر هو باتريك جاسبار ــ سفير الولايات المتحدة السابق لدى جنوب أفريقيا ــ الذى دعا الحزب الجمهورى الأمريكى للتعلم من تجربة جنوب إفريقيا كيفية التعامل مع رئيس بات يمثل عبئا سياسيا مكلفا على الحزب والبلاد.
ديمقراطية جنوب إفريقيا النابضة المتفاعلة وكذلك تجارب زيمبابوى وإثيوبيا فى إدارة الانتقال السياسى بالتفاوض وبسلمية هى تجارب مهمة فى زمن حكم الرجل الواحد وانحسار المد الديمقراطى.
نقلا عن الشروق القاهرية